السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الناس في بلادي جارحون كالصقور

الناس في بلادي جارحون كالصقور
9 فبراير 2011 19:28
صلاح عبد الصبور شاعر وكاتب مسرحي عربي من مصر، كان ديوانه الأول بعنوان “الناس في بلادي”، أما الثاني فحمل عنوان “أقول لكم”، والثالث “أحلام الفارس القديم”.. وقد أكد من خلال هذه الدواوين وبحسب نقاد الأدب في فترة الستينيات، انه مبدع حقيقي وقامة شعرية، تملك من النضوج ما يؤهلها لدخول عتبة الشعر المقدسة بكل احترام وإجلال.. وهكذا أثبت عبد الصبور بما لا يدع مجالا للشك أن عمود الشعر الجديد قد أقيم وان ذلك المعبد الاثيل الذي انهار برحيل أمير الشعراء احمد شوقي قد أزيلت وارتفع مكانها بناء جديد.. وروح شعرية وفلسفية جديدة. صحيح أن صلاح عبد الصبور صاحب تجربة تختلف كثيرا عن تجربة أمير الشعراء أحمد شوقي ومن عاصروه في ذلك الوقت، ولكن الآمال تنعقد دائما على كل صوت جديد يدخل إلى حلبة النزال الصعبة ممثلة في إيقاع الشعر، ومفردات اللغة، والأسلوبية والصورة الفنية، وعناصر أخرى كانت له دراية كبيرة بها، بما يجدر أن تكون له مكانته المرتفعة بين شعراء العربية المحدثين. في ديوانه الأول “الناس في بلادي” كانت المرارة عنوانا واضحا وحساسا في جنبات المعاني الشعرية حينما قال: (الناس في بلادي جارحون كالصقور)، وما بين المرارة والكآبة والحزن الأسود كانت اختلاطات ديوانه الثاني “أقول لكم”، وما تبقى له من حزن عميق شفيف استنطق قصائده في ديوانه الثالث “أحلام الفارس القديم” حتى ان بعض نقاد الأدب وصفوه بالعصفور الحزين: “كون خلا من الوسامة/ اكسبني التعتيم والجهامة/ حين سقطت فوقه في مطلع الصبا”. والسر في ذلك انه انتقل تدريجيا من التجربة الخاصة إلى العامة، ومن جزئيات الوجود إلى كلياته.. وبعد ان كان يحدثنا عن الإنسان في مجموعه وعن موقف الإنسان من الوجود، وجد فيه شيء جديد وهو انه أضحى لا يكتب شاهدا على قبر الحياة، بل اصبح يلتمس طريق الإنسان إلى الخلاص والبحث عن الوجود بفلسفة إيجابية هي بداية كل شعر عظيم وفن عظيم. الفلسفة التي اهتدى إليها شاعرنا الراحل، كانت ممثلة في اعتقاده أن خلاص الإنسان من عالم الظلال والوهم والعبث واللاواقع الذي يعيش فيه لا يكون إلا بالموت أو الحب. إنها حرب سجال بين متناقضين لا يلتقيان أبدا، ويقول: ولننكسر في كل يوم مرتين فمرة حين نقابل الضياء ومرة حين تذوب الشمس في الغروب.. وتبدو رموزه هنا واضحة تماما فهو لا يقصد في الصباح والمساء وانما يعادلهما موضوعيا في الميلاد وفي الموت. وانكسار الإنسان ساعة الموت وأمام شبحه الرحيب هي التجربة الحقيقة المشتركة بين كل الأحياء، وهي التي جعلت شاعرا كأبي العتاهية مثلا، أن يحدد موقفه من الحياة كلها حينما أعلن جدبها وخوائها وعقمها وعقوقها حينما قال: “اهدموا للموت وابنوا للخراب فكلكم يسير إلى تباب”. ونظن أن كل ذلك يصب في قناة التشاؤميات التي تصدرها أبو العلاء المعري في فترة من حياته الشعرية حينما كان يذكرنا على الدوام بمقبرة الحياة في قوله: “رب لحد قد صار لحدا مرارا”، وفي قوله: “ولا أظن أديم الأرض إلا من هذه الأجساد”. كذلك يشترك عبد الصبور والمعري في اعتبار حادث الميلاد النكبة الأولى إذا كان حادث الموت هو النكبة الثانية، على نحو ما يقوله المعري: “هذا ما جناه أبي علي وما جنيت على أحد”. بينما يبني عبد الصبور تشاؤمه على قسوة الحياة وقوانينها الميكانيكية وغياب العدالة الاجتماعية، حيث يعتبر أننا جميعا نعيش في مأساة لا تنتهي: فقد أردنا ان نرى أوسع من إحداقنا وان نطول باليد القصيرة المجذوذة الأصابع سماء أمنياتنا.. ثم أنام غارقا فلا يغوص لي.. حلم.. إن نكبة الإنسان عنده انه يريد أن يرى أوسع من حدقته التي خلقها له الله، انه يريد المعرفة المحرمة، وكأننا نعيد تجديل صورة (خطيئة آدم الأولى) حينما أكل من (شجرة المعرفة) أو (الشجرة المحرمة)، ومن يتأمل كلام عبد الصبور هنا يجد انه ينشد (الوحدة) لأنها الطريق الوحيد إلى تطهير النفس والصفاء الإنساني المفقود في عالم مجنون يتخطى حدوده. فالخطيئة الأولى عنده جاءت بالموت الذي نسميه الميلاد أو نسميه الحياة ولا نجاة من ذلك إلا بشنق المادة والاندماج من جديد في ذات الله. واما أن الموت هو باب الحياة عنده وان الإنسان متلهف على الدوام الى ولوج هذا الباب، فيعزى إلى قوله في صلاته الأخيرة: يا ربنا العظيم، يا إلهنا. أليس يكفي أننا موتى بلا أكفان حتى تذل زهونا وكبرياءنا؟ هل هو فقدان الإيمان؟ لا.. انه مناشدة، من الإنسان إلى الله طالبا منه ان ينتشله من عذابات وجحيم الحياة، وان يأخذه إلى جواره برفق، يريحه من عناء هذه الحياة القاسية، لكن بشر الحافي الصوفي في مذكراته يشير إلى ان سبب سقوط الإنسان في الأرض هو لفقدانه الإيمان الحقيقي الصافي، وعد رضاه بقضاء الله. الإنسان عند عبد الصبور هو (صاحب القرار) او الملك الذي ورث الحكم ويريد ان يمتلك الأرض ومن عليها، يبدو لنا في صورة غريبة وهو يحمل تاجه وصولجانه، لكنه على الرغم من ذلك يشعر على الدوام بضعفه.. تهزه الأشياء والأحداث.. وتحركه الرياح في كل الاتجاهات.. انه في صورة مشهدية بديعة يشكلها في صورته حينما يحس بإنسانيته الضعيفة كلما جن الليل وخلا إلى نفسه في مخدعه الملكي، وسط حراسة من الجلادين والحراب والسيوف.. إنه لا يرتوي من أجساد النساء، فتسلمه هذه الأشياء إلى حزن مفرط، وسقم شديد، لا يبدو لنا في أشكال من القوانين والضرائب، والعمل على خنق الشعب والرعية والحرية ومصادرة كل ما هو جميل وانساني.. وهي صورة اسقاطية يستثمرها بروح فنية عالية. يقول عبد الصبور: “الحب هذا الزمان يا رفيقتي.. كالحزن لا يعيش إلا لحظة البكاء.. الحب بالفطانة اختنق).. وهذا الاختلاط الصريح بين رموز الحياة نجده واضحا في شعره، فهو حينما يحدثنا عن تجربة غرامية مثلا يلبسها تجربة دينية خفية. فهو شاعر ميتافيزيقي يستخدم رموز الصوفية دون ان يكون صوفيا بالمعنى المألوف.. ولننظر كيف يعبر إلى الحديث عن الخلاص بالحب من خلال هذا المقتطف الشعري من قصيدة “أحلام الفارس القديم”: كنت ان بكيت هزني البكاء وكنت عندما أحس بالرثاء للبؤساء والضعفاء أود لو أطعمهم من قلبي الوجيع ماذا جرى للفارس الهمام؟ انخلع القلب، وولى هاربا بلا زمام؟ وانكسرت قوادم الأحلام؟ لقد ضاع منا الفردوس، هذه هي تجليات عبد الصبور وربما تنبؤاته، انه يشير إلى ضياع الأحلام وعهد الفروسية والبطولة المساوية للإنسانية. انه لا يطلب سوى العودة إلى الفردوس القديم، إلى عهد الفتوحات والقوة واثبات الذات على خريطة حضارة العالم، على النحو الذي خرج منه قول الفرزدق حينما وصف حاله: “وكانت جنتي وخرجت منها كآدم حين أخرجه الضرار”. فهل انتهى زماننا؟ أم أن هناك عودة إلى الرحم القديم، إلى زمن ما قبل السقوط؟ ولكن شاعرنا يعرف أن لا خلاص من كل ذلك إلا إذا امتدت إلينا يد منقذة.. يد مليئة بالحب.. فالحب الإلهي هو أسمى ما في هذا الوجود، حتى ان الحب على هذه الأرض يولد عنده فصلا من السلام، ومحبة الإنسان لأخيه الإنسان ويقول: فنعرف ان الحب كغصني شجره كنجمتين جارتين كموجتين توأمين مثل جناحي نورس رقيق عندئذ لا نفترق يضمنا معا طريق يضمنا معا طريق.. وهكذا علق صلاح عبد الصبور خلاصه على الموت كما علقه على الحب في ثنائية كالخطين المستقيمين.. وهكذا أيضا يختلط الحب والموت والفلسفة والمناجاة في شعره.. ترى هل كان شاعرنا بشعره هذا وبفلسفته هذه سابقا لعصره، ومتنبئا لما يحدث الآن في عالمنا من كراهية، وحروب وتدمير وطغيان، وفساد وتسلط أعمى، وعولمة بغيضة، وسياسة تدمر الحياة التي وهبنا الله إياها أمانة في الأعناق.. حتى طالب بكل هذا الكم من الحب الإنساني كي تستقيم الحياة كما أرادها الله على أرضه؟
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©