الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

نحو رؤية عربية للحداثة (1-3)

نحو رؤية عربية للحداثة (1-3)
25 سبتمبر 2007 23:45
أفضلُ مدخل إلى تعريف الحداثة - في تقديري - هو المدخلُ المعرفي، فالحداثة هي اللحظة التي تتمرد فيها الذات العارفة، فردا أو جماعة علي طرائقها المعتادة في الإدراك، شاعرة أنها لابد أن تبدأ في فعل مساءلة جذرية لكل ما حولها، على كل المستويات، غير غافلة عن وضع نفسها هي موضع المساءلة، ولذلك فالحداثة تبدأ من اللحظة التي تنقسمُ فيها الذاتُ العارفة على نفسها لتغدو فاعلا للمساءلة ومفعولا لها، وذلك في الوقت الذي تجعل من العالم الذي تدركُه موضوعاً للمساءلة نفسها، ولا حداثة بهذا المعنى إلا من منظور هذه الدلالة المتكاملة التي تجمعُ بين الذات وموضوعها، بين الأنا والعالم، ويعني ذلك أن فعل المساءلة الذي تندفع إليه الذات، أو تُضطر إليه هو فعلٌ جذري من ناحية، وفعل شامل من ناحية ثانية: جذري لأنه لا يقبل أنصاف الحلول، وينطلق من رغبة التمرد الحدِّية على كل شيء : الذات التي تدرك والعالم المدرك على السواء، وشامل لأن هذا الفعل في جذريته لا يترك شيئا أو موضوعاً أو بعدًا من أبعاد عالمه إلا وقرعه بالأسئلة التي لا تكف عن توليد الأسئلة· ويعني ذلك أن العقل المحدث، أو الوعي المحدث بلا فارق، يتحرك، آنيا، وفي الوقت نفسه في كل اتجاه، سياسياً، واجتماعياً، ودينياً، وفكرياً، وعمرانياً، وفنياً، وعلمياً بالمعنى الذي يشمل العلوم الإنسانية والاجتماعية، والعلوم الطبيعية والتطبيقية، ولذلك لا يمكن التحدُّث عن الحداثة من حيث هي فعل معرفي جذري وشامل إلا من منظور تمردها ورفضها الجذري الشامل لكل شيء، لا بالمعني العبثي، أو التمرد من أجل التمرد، وإنما بالمعنى القصدي الذي يهدف إلى الانتقال بكل شيء من شروط الضرورة إلى آفاق الحرية، من واقع التخلف إلى إمكانات التقدم، من الإظلام إلى الاستنارة، من الحجر على حرية الفكر إلى إطلاق سراح الفكر بلا قيود، وأخيرا من النظرة الضيقة التي لا تضع في اعتبارها إلا شريحة بعينها في المجتمع إلى كل شرائح المجتمع وطبقاته، ومن ثم من الرضا بما هو قائم في العلوم والفنون والسياسة والاقتصاد والصناعة والتجارة والأعراف والعادات الاجتماعية، إلى كل ما هو ممكن، متخيل للارتقاء بالوضع الإنساني وذلك على نحو متزامن، يتحرك فيه الفعل المعرفي للحداثة - في تمرده الخلاق - حركة أشبه بحركة الثعبان الذي تتحرك عضلاته في كل اتجاه، لكن الجسد كله يندفع إلى الأمام، مهما كانت اتجاهات أجزاء الجسد في تفاصيلها· أما زمن الحداثة فهو الزمن الذي يقع في المنطقة الوسطى ما بين التخلف والتقدم، هو زمن التغير الذي تنقسم قواه وعلاقات إنتاجه على كل المستويات : بين الواقع والممكن المحتمل، بين تقاليد الماضي الجامد، وإرهاصات الزمن القادم الذي يخايل بوعود التغير والتطور، واعدا بالخروج من الجمود على كل المستويات إلى الحركة الحرة صوب المستقبل الأكثر تقدما في كل مجال من مجالات الحياة، هذه اللحظة التي تأتي في المابين، وفيما يصل ويفصل بين زمانين هي لحظة انقسام وصراع، انقسام ما بين عالم قديم قائم، وعالم جديد يلوح في الأفق، وصراع ما بين مؤسسات العالم القديم وأجهزته المعرفية والعلمية والسياسية وعلاقاته الاجتماعية والثقافية من ناحية، ومؤسسات جديدة يتم التبشير بها، والحديث عن إمكانتها الإيجابية، على كل المستويات والنتيجة هي الصراع، الذي يحدث بين النقائض، وذلك بما يوحي بانتصارالنقيض الجديد وإمكان قضائه على النقائض القديمة· وقد تكون بداية هذا الصراع في قطاع بعينه، فكري أو سياسي،أو اجتماعي أو علمي، معرفي أو ثقافي، لكن دائرة الحركة في الصراع واتجاهاته، خصوصا إذا كانت البداية جذرية سرعان ما تصيب بالعدوى كلَّ ما حولها، وينتقل إلى غيرها الذي ينتقل بدوره إلي غيره، وذلك في حركة بطيئة، أو متسارعة، أو متراوحة بطاقة التمرد والرفض والخيال، التمرد على القديم المتحجر، والرفض للاكتفاء بما هو واقع بمنطق أنه ليس في الإبداع أفضل مما كان والخيال الخالق الذي يستبق الماضي والحاضر إلى المستقبل، وينتقل بوعي الجماعة الإنسانية، أو الأمة من التعلق بماضيها والقياس الدائم عليه، كأنها تمضي إلى الأمام وأن عينيها في قفاها، كما قال أحمد أمين ذات مرة في الحديث عن جناية القديم على الجديد، وإنما تمضي إلى الأمام وان عينيها كخيالها متطلعة إلى وعود المستقبل الذي لا تكف عن صنع سيناريوهاته الممكنة أو المحتملة، ولذلك تقترن لحظة الحداثة - في صراعات المابين - بالتفكير المستقلبي الذي يطارد عُبَّاد الماضي والمكرسين له والمتعلقين به كأنه الأوثان المقدسة، وكل فعل موجب في هذه اللحظة، لحظة المابين، هو الفعل الذي يستبدل بالأمس الغد، وبالمعروف والمألوف والمسلم به، ما يظل في حاجة إلى الكشف من إمكانات الغد الذي هو جنين الحاضر، لكن في حركته الخلاقة التي لا نهاية لها أو حد، والعلامة الأولى للحظة الحداثة - من هذا المنظور - هي القياس على إمكانات الزمن القادم وليس القياس على واقع الحاضر الساكن أو ميراث الماضي الثابت، ونستطيع أن نرى تحقق هذه العلامة في حركة الإنتاج العلمي أو المعرفي الذي ينتجه المجتمع، وذلك من حيث هو إنتاج موضوعه المستقبل، ولا شاغل له بالدرجة الأولى سواه، فالتاريخ لا يكرر نفسه، وأنت لا تنزل ماء النهر نفسه مرتين كما قال بعض الفلاسفة القدماء·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©