الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

تغاريد نكهة الأب

28 سبتمبر 2007 00:19
ما أن يحط شهر رمضان بأيامه علينا حتى تحط علينا ذكريات الأمس، وما أن ينظرُ أحدنا إلى مائدة الطعام حتى يستذكر موائد رمضانية سالفة صارت جزءا من تاريخنا الرمضاني، فلهذا الشهر تقاليده الأُسرية مثلما له شروطه الذاتية أو هويته الدينية الخاصة به· ومن ذلك أن الأب غالباً ما يفتتح المائدة بدعوته أبناء أسرته بالأكل فور أذان المغرب، فترى الأبناء ينظرون إلى الأب فيما يقبل عليه في تلك اللحظة الربانية الفاصلة بين نهاية ساعات الصوم وبداية ساعات الإفطار· ترانا أطفالاً نردِّدُ مع آبائنا دُعاء الإطار، نرقبُ لقمة الأب الأولى، فماذا يأكل بداية؟ وما هي أكلته الأولى؟ يمدُّ الأب أصابعه إلى التمر، فنمد أصابعنا الطرية العود وراءه لنحاكيه، ويمد الأب كفه إلى الماء فنحاكيه في شرب الرشفة الأولى من الماء، تضع الأم الشوربة في قدح الأب، فننظر إلى أمّنا بانتظار أن تصب لنا ما فعلت للأب· تقتطع الأم قطعة لحم أو دجاج لتقدِّمهُ للأب، فننتظر أن تفعل الأمر نفسه لنا، لكنه الأب يعيد توزيع بعض حصته علينا، وبالطبع يهتم بأصغر القوم حباً به، بل ويُطعم بأصابعه صغيرة البنات لأن أصابعها الرقيقة وحياءها الأرق لا يقويان على حمل حتى أدوات الإطعام رصاصية المعدن· تبلُّ العروق لتسعد بالطعام بعد صيام، وليأتي الشاي كما لو كان سيداً ليس لأنه كذلك إنما لأن انتشاء الأب برشفه له مذاق الرجولة والكبرياء، فنطلب الشاي من أمِّنا بأقداح صغيرة لنجلس حول الأب متحدِّين سُلطانه، مُحاكين انتشاءه، مُنتصرين على ذواتنا الصغيرة كأننا، ونحن نحاكيه في كل صغيرة وكبيرة، نسعى إلى بسط وجودنا، وتأكيد ذواتنا كوننا الجزء غير الهامشي في الأسرة· يا لها من ساعة رائعة، تلك التي كان الأب يقرأ خلالها آيات من القرآن الكريم، ما أجمل صوته الذي كان يأسرنا عن لحظتنا حتى نستغرق في موسيقى تلاوته المعطرة بالدفء الملائكي! كانت الأم لحظتها تتوشَّح بالحجاب سمائي اللون وهي تتابع ما يقرأه الأب من آيات، وصغيرات الأسرة يتوشَّحنَ بالحجاب الأبيض وهنَّ يسمعنَ صوت الأب الرخيم الذي يقرأ القرآن ليضعنا جميعاً في عالم ربانيٍّ رائع الأثر· وعند الانتهاء كان شعورنا أننا امتشقنا من الله رحمة وغفراناً وعطفاً ومُكنة أن يرضى الله عنا وعن والدينا فندعو لهما بخير الدُّنيا وفوز الآخرة· هكذا كان حضور الأب بيننا في مساءات رمضان الحالمة وفي لياليه الرائقة، إنه الأب في نكهة حضوره التي لا تتكرَّر سوى مرة في كل عام، وعندما يرحل الأب ترحل نكهته معه، لكنها الأم التي تفيض نكهة تبقى لتضفي على وجودنا الرمضاني بعض ما كان يمنحه الأب الراحل له· rasmad8@hotmail.com
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©