الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الزمن القصصي وتشكيل المكان

الزمن القصصي وتشكيل المكان
27 مارس 2008 02:56
ما زال السرد النسوي الإماراتي يحتمل كثيراً من الدراسة، لا سيما أن كثيراً من الدراسات التي تناولت هذا السرد كانت تركز على الجانب الموضوعي في القصص النسائية الإماراتية، منطلقة من الاختلاف الموهوم بين الموضوعات التي ينتجها الجنسان، متجاهلة أنّ الكثير مما تنتجه الأديبات لا يستسلم لهيمنة الأنثى التي تقدم شخصيات نسائية قصصية يقمعها شرطها الاجتماعي، بل ينطلق ليصور موضوعات ذات طبيعة إنسانية تتناول مشكلات المجتمع المختلفة وتعرضها في نسق سردي يتطور يوماً بعد يوم منذ بدايات السرد النسائي الإماراتي وحتى الآن· وتحاول هذه المقالة أن تسلط الضوء على نموذج لتشكيل المكان السردي النسوي من خلال ما قدمته القاصة سعاد العريمي، وذلك من خلال مجموعتيها القصصيتين ''طفول'' و''حقل غمران'' اللتين تمثلان نموذجين ممتازين للسرد النسوي الذي يعالج القضايا الاجتماعية والإنسانية العامة، ولا يلهث وراء حقوق نسوية يسلبها الرجل، وإنما تضع الرجل والمرأة على حد سواء وهما يسعيان لتحقيق شرطهما الإنساني· الزمن والحنين تعاملت سعاد العريمي مع الزمن القصصي بكفاءة، إذ كثيراً ما كانت تقدم تحديداً زمنياً مقترناً بالحدث منذ البداية، ويلمح القارئ في قصص العريمي حنيناً دافقاً نحو الزمن الماضي، ويبدو ذلك من خلال استذكاراتها المتعددة التي تملأ نسيج قصصها، على نحو ما نجد في قصة طفول: ''كانت شواطئ الخليج مسرحنا، ورماله الناعمة تلاعب قدمي، قدمي·· أما هو فكانت قدماه تنغرس ]هكذا في الأصل والصواب تنغرسان[ كالرماح، ذلك الفتى ذو الوجه النحاسي·· تتقاطر الفرحة من مسام بشرته ويضحك كالطفل''· وتقدم القاصة في بعض سياقاتها القصصية استذكاراً محكوماً باللغة من طرفيه، وقد تنطلق القاصة في استذكاراتها من الحادث اليومي، ولعلنا نشير هنا إلى قصة توق، حيث تقود حادثة صغيرة إلى تذكر الأم: ''مدت يدها بلفافة: خبز ''ساندويش''·· تناولتُها وقضمتُها للمرة الأولى·· وكانت تراقبني مبتسمة· قلت لها: هل تدربت على هذه الابتسامة من قبل؟ ثم تذكرت ألا يليق التحدث مع امرأة بهذه الطريقة·· نسيت أن أكون لطيفاً معها، ونسيت لباقتي· أمي تقول لي: لا تحدث النساء بهذه الطريقة الجافة''· وتلجأ القاصة إلى تكثيف الحكاية أو القفز عن بعض حوافزها أحياناً على نحو ما نقرأ حول شخصية محمد بن ناصر بن المترف الذي يقضي حياة مليئة بالأسى بسبب غلطة أبيه إذ تلخصها القاصة بإشارات زمنية مختصرة ''سنوات مرت بلا معنى·· سنوات مرصعة بالتوتر والتكفير''· وقد يشكل الزمن في قصص العريمي جزءاً من نسيج الحدث، وتصبح الإشارة الزمنية حافزاً من حوافز الحكاية· وتبدي القاصة اهتماماً لا يخفى بتأثيث المكان، ولا يكون هذا التأثيث مجرد لعبة تأطيرية، بل يرتبط ارتباطاً عميقاً بدلالة النص ورؤية الشخصية، وتنوع في قصصها تنوعاً ثراً بين المفتوح والمغلق، وتتحكم في فتح المغلق، وفتح دلالته ايضاً، كما تستثمر إمكانات الحواس كافة من أجل تقديم مكان أكثر ألفة وحياة وتنوعاً، فهي تستعين بالرائحة والصورة والصوت من أجل تحقيق هذه الغاية، وللتدليل على هذا الأمر تمكن الاستعانة بالسياق السردي التالي: '' الأبواب لها صرير جنازة ورائحة المطر تنبعث من تراب الحديقة''· ولا تكتفي القاصة بالمكان المألوف، إذ تلاحق حروفها صور غير المألوف والمعادي، كأن تقدم وصفاً لمقبرة في قصة ''الدقائق الأخيرة قبل الواحدة'' إذ يجتمع الحزن والفرح، والأنس والوحشة، والظلام والنور، وكثيراً ما نجد الفانتازيا الغرائبية التخيلية، على نحو ما نجد في قصة ''مرامي''· إذ إن هناك جوّاً مسرحياً، وإضاءة وانتقالاً غير منطقي، واقعياً لا فنياً، من مقطع/ مشهد إلى آخر، وهناك ساعة مائية تذوب على الأرض، وتستحضر التراث ببراعة· وتربط القاصة الغرائبية بالاغتراب، خاصة حين يرتبط الوجود المكاني بالمدينة، حيث يعاني المرء من الانفصال عن بيئته ويعيش غريب الوجه واليد واللسان، ولعل المدينة هي أكثر الأماكن التي تحاول سعاد تصوير عدائها لها مما يجسد في المقابل حنيناً للقرية، والبساطة، والمفتوح، والأليف، في مواجهة الكتيم والمغلق والمعادي، وتمارس المدينة دورها الطارد النابذ، إذ يموت بطل هذه قصة ''هذا الوجه ليس لي'' على قارعة الطريق، وكأن سعاد العريمي تريد من خلال هذه القصة أن تعيد مقولة رواية ''زقاق المدق'' لنجيب محفوظ، إذ أن كل وجود للشخصية خارج المكان محكوم عليه بالفشل، وهي ذات المقولة التي طرحها غسان كنفاني في رواية ''رجال في الشمس'' إذ يمنى الخارجون من الأرض بالموت الرخيص· صناعة المكان ويعدّ تشخيص المكان مزية ظاهرة في قصص سعاد العريمي، إذ أنها تسعى من خلال السرد القصصي إلى إضفاء صفات إنسانية على المؤثثات المكانية، ففي قصة ''كوابيس نبتة توامية'' يشغل المكان أساس القصة، فالبطلة نبتة وجبل توام شخصية مساعدة، وهذه العلاقة بين المكان والشخصية علاقة جميلة تعمق الإحساس الجمالي بالطبيعة· وفي هذه القصة تتابع سعاد ما يمكن أن نسميه: صناعة المكان، من أجل أن تقدم ذلك التفسير الرومانسي المدهش للواقع· وقد حاولت سعاد العريمي تكرار هذه التجربة في قصة ''اغتراب''، ولكنها كانت أقل نجاحاً، لا لتقصير في البناء أو اللغة، بل لأن تكرار الإبداع، بالطريقة ذاتها، يخرج عن كونه إبداعاً· أما فيما يتعلق بعناوين القصص، فقد جاءت بشكل عام مختصرة ودالة ومكثفة ومطابقة لمحتوى القصص، إلا أنني - مع تحفظي على تدخل الناقد في عمل المؤلف - أميل إلى اقتراح تسمية أخرى لقصة ''مرامي'' إذ كان من الممكن أن تسمى ''دائرة الضوء'' فكلها تقوم على هذه الدائرة التي تكشف الشخصيات، والأمكنة والرؤى، والحضور والغياب· هكذا نرى أنّ الزمن والمكان في قصص سعاد العريمي، كانا بشكل عام، جزءين لازمين من أجزاء بنية الحكاية، يقومان بدورهما التأطيري، إضافة إلى إسهامهما في تقديم الدلالة العامة للنص، وهذا أمر يحسب لصالح النص السردي لسعاد العريمي، والنص السردي النسوي الإماراتي، مما يغري بدراسات أخرى لاحقة·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©