الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

عندما تفكّر السينما وتسأل وتجيب

27 مارس 2008 03:07
قبل قرون كثيرة وُلِد الأدب، لكن فنّ السينما الفتيّ الذي تجاوز عمره المائة عام الآن استطاع أن يحتضن، مدعوماً بكل ما توفره التكنولوجيا له، أسئلة الأدب وأن يجسدها أمام أعيننا بعبقرية فذة وهو يخرجها من الكلمات ومن الخيال هازماً خيالنا في أحيان كثيرة، كما لو أن سيرة التطور التكنولوجي هي سيرة هذا الفن الجديد، وقد استطاع هذا الفن أن يمضي بعيداً طارحاً رؤاه بفنية عالية وقدرة استثنائية على الاستحواذ على قلوبنا وعقولنا وقد اتسعت أعيننا أمامه دهشة لا تفوقها أي دهشة أخرى· ليس ثمة انقطاع هنا بين مشروع السينما ومشروع الأدب في تأمّلهما لقضايا الحياة والموت، الوجود والعدم، الجريمة والعقاب، الحب والكراهية، الحرية والعبودية، الحقيقة والخيال، وكل تلك الثنائيات التي طحنت القلب البشري وأشقت الوعي وهي تمضي به في دهاليز لا نهاية لها، وكلما أدرك هذا الوعي ضوءاً انطفأ وكلما لاحت له واحة تبددت كالسراب الذي كان يحتضنها قبل قليل· جاءت السينما لتفكِّر وترينا كيف تفكر، وتسأل وترينا مدى السؤال، وتجيب وترينا دم الإجابة وعبثيتها، لكنها وهي تفعل ذلك ظلت تتكئ في كثير من مشاريعها الكبيرة على الأدب الذي لم يتوقّف تجدد كثير من أهم أعماله رغم مرور قرون وقرون على كتابتها، وقد بقيت (مغامرة العقل الأولى) كمغامرته الثانية والثالثة والرابعة وإلى ما لا نهاية، حقلاً خصباً لتوالد التأملات في كل هذه الثنائيات التي بقدر ما تبدو ذات خطوط واضحة ونحن ندعوها باسمها، بقدر ما تكمن كينونتها في هشاشة الحدود الفاصلة بينها، كما لو أن فكرة الحد أو الخط الفاصل ما هي إلا معضلة وهزيمة أولئك الذين تصوّروا ذات يوم أنهم حين وضعوها قد ختموا كلَّ قول وبددوا كلَّ التباس· في هذه المنطقة التي يذوب فيها الخطان الفاصلان ويندمجان، أو يذوب الخط الفاصل، نعيش، وتتسرب هذه الثنائيات إلى بعضها البعض لتخلق مساحة أخرى، هي المساحة الإنسانية التي يختبر فيها البشر أرواحهم ويتأكدون من أرضيتهم ويعثرون فيها على أخطائهم ومساحات تمردهم، علاقاتهم بأنفسهم وعلاقاتهم ببعضهم بعضاً وعلاقاتهم مع الواضح الذي كلما اتّضح أصبح مجهولاً أكثر، ومع المجهول الذي كلّما أوغل في غموضه لإثبات حقيقة حضوره أوجد مساحة أكثر اتساعاً تتصارع فيها هذه الثنائيات، وأدواتها البشر هنا، كما تتصارع سكاكين بورخيس التي لم تستطع حسم معركة قديمة ذات يوم بعيد فعادت لتتقاتل ثانية وتحسم ما ظلّ معلّقاً منذ سنوات طويلة، ووسيلتها بشر جدد ظنَّ كل واحد منهم أنه يريد أن ينتصر على خصمه، جاهلاً أن ثمة سكيناً في يده هي التي تريد أن تهزم سكيناً أخرى وهذا كل ما في الأمر!! üüü إلى فكرة الاختيار يذهب فيلم ''أسطورة ''1900 وهو بمثابة مديح مرٍّ لكل هذا التعدد الذي تلقيه الحياة أمامنا، طالبة منا أن نختار من بين كل البلاد بلداً واحداً ومن بين كل النساء امرأة واحدة، ويغدو المكان أكثر اتساعاً كلما ضاق في هذا المنظور، وأكثر ضيقاً كلما اتسع، وتغدو الموسيقى قادرة بمفردها على احتضان كل العوالم، كما لو أن الذي يريد كل شيء لن يحصل على أي شيء فعلاً في النهاية وكما لو أن الذي اختار شيئاً واحداً قد فقد كل شيء أيضاً· في فيلم ''منصة الجمال'' تبدو معضلة الكائن كبيرة وهو يلعب الأدوار، دوراً بعد آخر في مسيرة حياته، بحيث يختلط (القناع بالوجه أو يتلاشى الوجه ويبقى القناع) لفرط ما التصق المطاط باللحم، ويمكن أن نرى ذلك في أفلام أخرى مثل ''كاغيموشا'' لكوروساوا و''دوني براسكو'' الذي قام ببطولته آل باتشينو وجوني ديب و''أرض الخوف'' لداوود عبدالسيد· كما يمكن أن نتأمل المكان المثال في ''الربيع الصيف، الخريف الشتاء والربيع أيضاً'' و''ملقى بعيداً'' وتلك المساحة المربكة ما بين تلك الفراديس وجحيمها، وتلك المقولة الملتبسة المنبثقة من لعنة الوجود في المكان الأمثل: يوم لعين في الفردوس أم يوم جميل في الجحيم؟ يمكن أن نتأمل شيئية البشر أمام إنسانية الآلة في ''الذكاء الاصطناعي'' و''رجل المائتي عام''، وذلك الجنون الذي يقود إلى دمار ينتظر العالم على عتبات اليوم التالي· وتلك المسافة الفاصلة بين واقعية الخيال وخيالية الوقع، أو بين جدوى الخيال ولا جدوى الحقيقة· ولكن الملاحظة التي لا يستطيع المرء القفز عنها هنا، هي الشح الشديد في الأفلام العربية التي تذهب لتأمل هذه القضايا، ولعلنا هنا لا نعثر على الكثير، وإذا ما عثرنا على فيلم عربي وابتهجنا به تبين لنا، بعد حين أو قبل حين، أنه (محاورة) مباشرة أو شبه مباشرة لفيلم عالمي آخر·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©