الثلاثاء 23 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

جدل النثر والشعر لرسم صورة الإنسان والوطن

جدل النثر والشعر لرسم صورة الإنسان والوطن
27 مارس 2008 03:08
مجدداً ينفصل الشاعر محمود درويش عن تجاربه السابقة، ليقدم تجربة جديدة تمزج الشعر بالنثر، والخفة والثقل، في كتاب يحمل على غلافه صورة لدرويش وقد بدا متأملاً في أفق ما، بملامح جديدة بدأت تشهد تغضنات الوجه وذهول العينين الناجم عن خمسة وستين عاماً يحملها على كاهله وتحفر في وجهه آثارها، الأمر الذي يؤشر على تحولات الروح والجسد معاً، نقصد إمكانية الربط ما بين صورة غلاف الكتاب وما يقع بين دفتيه من نصوص، خصوصاً أن درويش بدأ يوسع مساحة المزج بين شعره ونثره، بل راح ينوع في أساليب كتابته، فهو واقعي حيناً، سوريالي حيناً آخر، ذاتي/ أنويّ في بعض النصوص، جماعي/ وطني في نصوص أخرى· في نصوص هذا الكتاب يتقدم السؤال الإنساني على السؤال الوطني الفلسطيني، لكن السؤالين الوطني والإنساني يشتبكان في الكثير من النصوص، فدرويش بات متمرساً في الجمع بين هذين السؤالين، لكنه هنا يتألق في استنباط الوطني من الإنساني واستخلاص الإنساني من الوطني· تلك هي المعادلة التي توصل إليها درويش بعد ما يقارب نصف قرن من الشعر والكتابة· وقد بات يتقنها منذ ''الجدارية'' تقريباً، ومروراً بمجموعته ''كزهر اللوز أو أبعد'' التي بدأت نثريته الشعرية تطغى على شعره، واقترب أكثر من تفاصيل حكايته وسيرته الذاتية- سيرة شعبه المشرد واللاجئ والمعذب· في ''أثر الفراشة'' خفة وسخرية سوداء، حكاية شخص وشعب، حكاية ذات أبعاد تشبه المأساة بقدر ما تعانق الملهاة، يسجلها درويش في صورة ثنائية تحمل القاتل والقتيل، الجلاد والضحية، حيث الجلاد يبني جدار عزلته الخانق للضحية، وحيث الجلاد يقتل لمجرد كونه خائفاً كما يقول هو وكما يقول ''بعض المدربين على تفضيل التحليل النفساني على فقه العدل: إنه يدافع عن نفسه· والبعض الآخر من المعجبين بتفوق التطور على الأخلاق يقول: العدل هو ما يفيض عن كرم القوة· وكان على القتيل أن يعتذر عما سبب للقاتل من صدمة''· بمثل هذه السخرية السوداء يصور درويش العلاقة بين الجلاد والضحية، وهو في نص يعود إلى الطفلة ابنة غزة التي قتل والدها أمام عينيها على شاطئ غزة، فيسخر من المشهد في قصيدة موزونة هذه المرة قائلاً: على شاطئ البحر بنت/ وللبنت أهل/ وللأهل بيت/ وللبيت نافذتان وباب/ وفي البحر بارجة تتسلى بصيد المشاة على شاطئ البحر/···/ والبنت تنجو قليلاً/ لأن يداً من ضباب/ يداً ما إلهية أسعفتها/ فنادت: أبي/ يا أبي!/ قم لنرجع، فالبحر ليس لأمثالنا!/ لم يجبها أبوها المسجى على ظله/ في مهب الغياب''· هذه القصيدة الموزونة التي احتلت فاتحة الكتاب تجسد- على قِصَرِها- ملحمة الإنسان الفلسطيني الذي يعتبر النزهة على شاطئ البحر أمراً خارج إمكاناته· إذ ما معنى أن تدرك طفلة أن ''البحر ليس لأمثالنا''، لولا هذا الإحساس المبكر بالتفرقة والتهميش؟ وهو ما كان عبر عنه غسان كنفاني في كتابه ''عالم ليس لنا''· وفي مقابل هذه التراجيديا الوطنية يتخفف درويش، في أحد نصوصه، فيصارع بعوضة مثلما يصارع الفدائي دبابة، فيطاردها بعد أن تمص دمه وتزعجه بطنينها، وحين تقف على صفحة كتاب يطالعه يطبق الكتاب معتقداً أنه تخلص منها، لكنه يجد أنه قد اصطاد الفراغ، وأفلتت البعوضة من المصير الذي أراده لها· فهل في هذه الحكاية أي رمزية أراد درويش التعبير عنها، أم أنها مجرد بعوضة فعلاً؟ وعن جدار الفصل العنصري يكتب مشبهاً الجدار بالأفعى المعدنية ''تلتف حولنا· تبتلع الجدران الصغيرة الفاصلة بين غرفة النوم والحمام والمطبخ وغرفة الاستقبال· أفعى لا تسعى بخط مستقيم لئلا تتشبه بنظراتنا إلى أمام· تتلوى وترفع كابوسها المصنوع من فقرات إسمنت مقوى بحديد مرن·· يسهل عليها الحركة إلى ما تبقى لنا من فتات جهات وأحواض نعناع''· على هذا النحو من استخدام المفردة اليومية يخلق درويش جملته ضمن تركيبة عالية الشعرية، مستفيداً من تجربته الشعرية والنثرية في المزج بين العالمين· وتبدو تجربة درويش في هذا الكتاب أكثر تنويعاً وتجريباً على غير صعيد، فمن جهة يكتب القصيدة الكلاسيكية بالوزن والقافية، كما هو الحال مع قصيدة ''كم البعيد بعيد'' التي يكتبها في صورة قصيدة حرة تفعيلية، لكن القصيدة موزونة ومقفاة حيث يقول: كم البعيد بعيد كم هي السبل نمشي ونمشي إلى المعنى ولا نصل هو السراب دليل الحائرين إلى الماء البعيد هو البُطلان·· والبطل وكذلك الأمر في قصيدة بعنوان ''على قلبي مشيت''، التي يكتبها في الصورة الكلاسيكية للشعر الموزون المقفى، ولكن بلغة عالية وحوار حميم مع القلب: على قلبي مشيت كأن قلبي طريق أو رصيف أو هواءُ فقال القلب: أتعبني التماهي مع الأشياء وانكسر الفضاءُ
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©