الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

سرديّات «النون»

سرديّات «النون»
8 مارس 2017 22:22
كانت المرأة الأوروبية تقرأ الكتب الدينية منذ القرون الوسطى، فلما جاءت الرواية وجدت فيها ضالتها لأنها مكنتها من ارتياد عوالم جديدة ومن مشاركة نساء أخريات، هن بطلات الرواية، تجاربهن وإسقاطها على واقعها في أغلب الأحيان، واللطيف في الأمر أن قارئات الرواية ألهمن أشهر الرسامين فأصبحن موضوعاً أثيراً لديهم، حيث أنجزوا لوحات لا تحصى، تصور شابات جميلات مستغرقات في القراءة. إذن، لماذا تنجذب النساء لقراءة الرواية أو الكتب الأدبية بصفة عامة أكثر من الرجال كما سنرى لاحقا؟ وهل قراءة الرواية من قبل المرأة أفرزت طبقة نسائية مثقفة، أم أن الأمر مجرد تزجية لأوقات فراغهن لا أكثر؟ ولماذا نجد المرأة بطلة الكثير من الروايات؟ وما الملهم فيها للكتّاب؟ هل وضعها الإشكالي؟ أم رقتها وجمالها وجمال جسدها القابل لتلقي الوصف الوبيل؟. بطلات السرد الذكوري تُعد المرأة الموضوع الأثير عند كتاب الرواية منذ ظهورها وإلى غاية اليوم، حيث استمدت الكثير من الروايات قوتها من اتخاذها المرأة موضوعا لها. وبناء عليه، فإن عددا كبيرا من كتاب الرواية العظام خلفوا روايات كثيرة حول المرأة، وقد استطاعوا سبر غور بطلاتهن وجعلهن نموذجا من نساء كل الأزمنة، فاستمرت تلك الروايات في الوجود وحققت خلودها، لامتلاكها مقومات الاستمرار مع القراء المتعاقبين، ويمكن التمثيل على ذلك بنماذج من روايات القرن التاسع عشر، حيث عناوين الروايات باسم البطلات، ومن هذه الروايات، «إيما بوفاري» لفلوبير، و«جين إير» لشارلوت برونتي والتي تعد من أساسيات الأدب الإنجليزي الكلاسيكي و«الأم» لغوركي وهي أجمل ما كُتب حول الأم ومشاعرها، و«أنا كارنينا» لليو تولستوي، و«غادة الكاميليا» لدوماس الإبن و«نانا» لإميل زولا والتي تترجم لمرحلة من مراحل المجتمع الفرنسي. ورغم حضور المرأة كبطلة في رواية القرن التاسع عشر فإن «سيمون دي بو فوار» الكاتبة والمفكرة الفرنسية، رأت بأن كتاب تلك الفترة: «لم ينصفوا المرأة وأظهروا جانبها السلبي، حيث تبدو بأنها لم يتم إعدادها لأي دور في المجتمع، فهي متفرجة فقط، ولا حول لها ولا قوة، ولا قدرة لها على إصدار الأحكام حيث هدفها في الحياة هو إرضاء السيد» وتضيف بأن «روايات هذه الحقبة كانت توضح حقيقة واقع المرأة في المجتمع الغربي وكيف أن النساء كن ساذجات» وهذا نجده في الرواية الرومانسية، لكن شارلوت برونتي كسرت تلك القاعدة وجعلت بطلة روايتها الرومانسية «جين إير» لا تملك من جمال الشكل شيئا وبالمقابل تتمتع بالإرادة الحرة والشخصية القوية، وقد نجحت الرواية نجاحا ساحقا، وأكدت الكاتبة ذلك لما علقت على اختيارها لشكل البطلة بقولها: «إن الكُتّاب ليخطئون إذ يصرون على أن يجعلوا من بطلاتهم جميلات، ويتخذون من هذا قاعدة، ولسوف أثبت أنهم مخطئون، سأقدم بطلة خالية من الجمال ضئيلة الجسم مثلي تماما»، وهذا يبين سر نجاح المرأة الكاتبة في تقديم بطلاتها إلى القارئ والتعبير عن واقعهن وطموحاتهن فهي تنطلق في كتاباتها من الذات. سردهنَّ بلسانهنَّ إن ما يمكن تأكيده، هو أنه كان للمرأة مساحة كبيرة في الرواية منذ ظهورها، فهي وراء تدفق وسيرورة السرد وتطوره، وبتعدد النماذج النسوية في الرواية تتعدد أدوار المرأة، فهي الأم والعشيقة والأخت وبنت الليل والمربية والمجنونة...كما تتعدد إحالاتها وترميزاتها، وحتى وإن كانت بطلات بعض الروايات خائنات أو شريرات فالرواية تعالج من خلالهن اختلالات مجتمع بأكمله، وتوحي بأنهن ضحية هذا المجتمع، وأن الوسط الذي نشأن فيه هو المسئول عن سقطاتهن، كما هو شأن «إيما بوفاري» و«حميدة» (زقاق المدق) و«نانا» إميل زولا وغيرهن. واللطيف في الأمر أن الكتابة النسائية أضحت اتجاها أدبيا في العقود الأخيرة سواء في العالم الغربي أو العربي، حيث الكاتبات كرسن قلمهن للدفاع عن المرأة، وخاصة في مجال الرواية، ونجاح هؤلاء الكاتبات مرجعه إلى كون الكاتبة أكثر صدقا في ترجمة واقع المرأة، حيث تنشغل بنسج معاناة المرأة ووجودها الإشكالي، واختيارهن للرواية لعرض أوضاع المرأة مرده إلى كون: «الرواية تلعب دور المنفعل الإيجابي بالتغيرات الاجتماعية والسياسية التي يعرفها المجتمع» حسب الباحثة المغربية رشيدة بن مسعود. ومن الروائيات العربيات اللواتي تناولن في رواياتهن موضوع المرأة حيث اتخذ الموضوع عندهن شكلا من أشكال قراءة الذات، نجد ليلى بعلبكي في روايتها «أنا أحيا» (1958) وعملها يعد من بواكير الكتابة النسائية العربية حول المرأة، كما نجد فاطمة المرنيسي التي كتبت عدة روايات ففككت من خلالها عالم الحريم ثم عاودت بناءه من جديد في محاولتها إيجاد البلسم الشافي لكل معاناة النساء والتي في الغالب يكون مصدرها ذكوري، حيث يقوم الرجل باعتبار المرأة مجرد شيء وُجد لأجله وأكدت ذلك بقولها: «هل أنا كامرأة... ذات أم شيء»، أما أحلام مستغانمي فقد حمّلت في رواياتها المرأة جزءا من المسؤولية وأن الحب وتنازلاتها للرجل هما سبب كل مآسيها، وهناك روائيات أخريات كسحر خليفة ولينا هويان الحسن وغيرهن كثيرات انشغلن بالكتابة حول المرأة، وتقول الباحثة «بياتريس ديديي» في هذا الصدد: «يبدو لي أن النساء بمقدورهن إحداث تجديد جذري في الكتابة المُعاصرة، ذلك لأن النساء عندما كتبن، ما عاد الرجال يستطيعون الكتابة بالتدقيق كما كانوا يفعلون عندما كانت النساء صامتات»، إذن، إن اختيار المرأة كبطلة للرواية يجعل قضيتها تحت المجهر، فيحفز ذلك النساء على السعي لنيل حقوقهن، وهذا سيؤثر إيجابا على الرجل قبل المرأة حسب تعبير الكاتبة الإيطالية سيبيلا إليرامو، لأنها إن نالت حقوقها ستقوم بدورها في المجتمع على أحسن وجه، خاصة أن المرأة حسب ألبير كامو: «هي رائحة الجنة على الأرض». قارئات وملهمات إن الرواية كجنس أدبي فتن المرأة منذ ظهوره وهو أمر حثها على قراءتها، حيث يرى الدارسون أن النساء أكثر قراءة للرواية من الرجل، ولا زلن كذلك إلى اليوم، وقد أكد الأمر «ماريو بارغاس يوسا» (1936) وهو روائي وناقد من البيرو، بقوله:«دائما يأتيني شخص ويسألني توقيعا إما لزوجته أو ابنته أو أمه..وعلى الفور أسأله، وماذا عنك؟ ألا تحب القراءة، وغالبا ما تكون الإجابة، بالطبع أحب القراءة لكني شخص مشغول»، ويضيف الكاتب: «إن قراء الأدب في تناقص وأن غالبية الباقين من القراء هن نساء». ويمكن إرجاع الأسباب التي تغري المرأة بقراءة الرواية إلى كون هذه الأخيرة محملة بين ثناياها بواقع يكشف عن معاناة المرأة وأحلامها المنتهكة. وقد ألهمت قارئات الرواية في القرن الثامن عشر والتاسع عشر والقرن العشرين أيضا أشهر الرسامين، فأنجزوا لوحات كثيرة لشابات مستغرقات في القراءة، وتفشي هذه اللوحات بقارئات ينتمين للأوساط الأرستقراطية، لكن هناك لوحات، وإن كان عددها قليل، لفتيات فقيرات، وهو أمر يؤكد رواج القراءة بين الطبقة الشعبية أيضا منذ القديم. ومن الفنانين الدين انجذبوا لرسم للقارئات نجد رونوار وهنري ماتيس وبيكاسو وجان هونوري فراجوناي وغيرهم كثير، وقد بدت أغلب القارئات في اللوحات الفنية بمفردهن مرفوقات بكتابهن فقط مستغرقات في القراءة، متخذات وضعيات مريحة كالاستلقاء أو الجلوس، وهذه الوضعيات تؤكد استمتاعهن بما يقرأن، وقد أكد ذلك ألبرتو ما نغويل بقوله: «غالبا ما تعتمد متعة القراءة مباشرة على الراحة البدنية للقارئ»، وترجم الفنانون من خلال أزياء القارئات وخلفية اللوحات، وضعهن الاجتماعي والطبقة التي ينتمين إليها، فبدت أغلبيتهن من الطبقة الراقية، وخاصة لوحات القرن الثامن عشر والتاسع عشر، واعتمد بعض الدارسين على هذه اللوحات لتقييم قراء الكتب في ذلك الوقت فتبين بأن عدد القارئات يفوق عدد القراء الرجال، ومرد ذلك حسب رأيهم إلى كون المرأة كانت تعيش الفراغ ولها وفرة من الوقت وخاصة تلك التي تنتمي للطبقة الراقية وتعيش في القصور حيث يقوم الخدم بكل شيء، وكانت الفتيات يقرأن في الكثير من الأحيان أيضا للضيوف أو لأسرهن، وفي بعض القصور في أوروبا في القرن الثامن عشر كانوا يوظفون القارئة ضمن العمالة المنزلية، كالخدم والطباخين، ويشترط فيها أن تكون شابة وذات صوت جميل، فتقوم بالقراءة للأسرة وللضيوف. وازدهرت قراءة الرواية لدى الشابات منذ القرن الثامن عشر أما في العصور الوسطى فكانت الفتيات يقرأن الكتب الدينية فقط، وكانت للقراءة لدى المرأة طقوس معينة، مقارنة بالرجل فهو يمكنه القراءة في أي مكان، في حين أن المرأة كانت في الغالب تقرأ في الداخل فقط ونادرا ما كان يتم تصويرها تقرأ في الخارج، ويعيد الدارسون اختيارها للداخل، حيث تتموقع قرب النافذة أو الموقد، وكأنها بذلك تبتعد عن العيون المتلصصة وتحقق خلوتها لتستطيع الاستمتاع بعوالم الرواية. وحسب ألبرتو مانغويل فإنه من القرن الخامس عشر حتى القرن السابع عشر كانت الكتب: «بالنسبة للنساء كنزا ثمينا يورثنها عادة لبناتهن وليس لأبنائهن». ونظرا للحضور الطاغي لقارئات الرواية منذ ظهورها، فهن لم يلهمن الرسامين فقط وإنما ألهمن الكتاب أيضا وكمثال على ذلك قيام الكاتب الفرنسي «رايموند جان» (1925- 2012) بكتابة رواية عنوانها «القارئة» وهي حول شابة جريئة ومغامرة نشرت إعلانا مبوبا تعرض فيه خدماتها كقارئة للآخرين في منازلهم خاصة وأنها تمتلك صوتا جميلا، فكانت تقرأ لزبائنها روايات حسب الطلب. صالوناتهنَّ والتنوير وقراءة الرواية والكتب من قبل النساء في أوروبا خلق طبقة نسائية مثقفة وهو ما جعلهن مضيفات الصالونات الأدبية بامتياز، فهن من أطلقنها، حيث في هذه الصالونات كانت تتم قراءة الرواية والشعر والمسرح، بالإضافة إلى المناقشات الفكرية، وكانت هؤلاء النساء من المجتمع الراقي ومن أشهر الصالونات الأدبية في فرنسا مثلا اشتهر صالون مدام دوشاتلييه وهي من كاتبات عصر التنوير في القرن 18، وصالون الماركيزة دو ديفان، وصالون مادلين دو سكوديري وصالون فالنتين كونرار وغيرهن كثيرات، ومن هذه الصالونات انطلقت شرارة عصر التنوير لتعم بنورها أوروبا كلها، كما أن هذه الصالونات شجعت على محو أمية النساء الأوربيات. وفي العالم العربي اشتهر صالون مي زيادة في القاهرة والذي كان يستقبل ضيوفه في مساء الثلاثاء وظل مفتوحا طيلة خمس وعشرين سنة. لكن هل الرجال يقرؤون الرواية؟ طبعا يفعلون ذلك ولكن عددهم أقل من النساء، وقراءتهم للرواية وخاصة تلك التي تعالج قضايا النساء تجعلهم أكثر احتراما للمرأة وأكثر تعاطفا مع قضاياها، وبغية معرفة من الأكثر إقبالا على قراءة الكتب هل المرأة أم الرجل، قامت صحفية فرنسية باستطلاع للرأي سنة 1994، فتبين بأن 70% من الرجال يفضلون قراءة الصحف في حين 69% من النساء يفضلن قراءة الكتب وأكد أصحاب العديد من المكتبات في فرنسا بأن 71% من عملائهم هن نساء وهو أمر يؤكد بأن المرأة تقرأ أكثر من الرجل، وغالبية الكتب التي تقرؤها النساء تنتمي لجنس الرواية. إن ما يجعل المرأة تنجرف لعوالم الرواية، حساسيتها وميلها للخيال وواقعها الذي يسمه الظلم، وروحها التواقة للخلاص من معاناتها المتأبدة، فالقارئة تلتقي ببطلات الرواية لأنها تفهم لغتهن، فهن يتحدثن بلسانها ويعشن ما يشبه تجربتها وإن كانت بصورة مختلفة، فتتماهى من خلال قراءتها للرواية، مع البطلات في بحثها المضني عن خلاصها، كما ترفع منسوب ثقافتها وتصبح أكثر فهما لذاتها ولواقعها. روايات بأسمائهنَّ عدد كبير من كتاب الرواية العظام خلفوا روايات كثيرة حول المرأة، بل وحمل بعضها أسماء نساء، ويمكن التمثيل على ذلك بنماذج من روايات القرن التاسع عشر: «إيما بوفاري» لفلوبير، و«جين إير» لشارلوت برونتي والتي تعد من أساسيات الأدب الإنجليزي الكلاسيكي و«الأم» لغوركي وهي أجمل ما كُتب حول الأم ومشاعرها، و«أنا كارنينا» لليو تولستوي، و«غادة الكاميليا» لدوماس الإبن و«نانا» لإميل زولا.. وغيرها. لمّا كتبت شهرزاد يبدو لي أن النساء بمقدورهن إحداث تجديد جذري في الكتابة المُعاصرة، ذلك لأن النساء عندما كتبن، ما عاد الرجال يستطيعون الكتابة بالتدقيق كما كانوا يفعلون عندما كانت النساء صامتات. بياتريس ديديي رواية «الساذجات» كتاب الرواية في القرن التاسع عشر لم ينصفوا المرأة وأظهروا جانبها السلبي، حيث تبدو أنها لم يتم إعدادها لأي دور في المجتمع، فهي متفرجة فقط، ولا حول لها ولا قوة، ولا قدرة لها على إصدار الأحكام، حيث هدفها في الحياة هو إرضاء السيد. روايات هذه الحقبة كانت توضح حقيقة واقع المرأة في المجتمع الغربي وكيف أن النساء كن ساذجات. سيمون دي بو فوار
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©