الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

حداثتنا رَخْوة..

حداثتنا رَخْوة..
8 مارس 2017 23:59
يبدو أن تقسيم تاريخ العالم إلى فترات أساسية كبرى هو تقسيم صائب ونافذ، لكنه لا يتعارض مع تقسيم كل فترة كبرى إلى فترات ذات سمات تقنية أو اجتماعية أو سياسية أو ثقافية خاصة. ولعل عصر الحداثة في الزمن العالمي هو أكثر المراحل التاريخية قابلة للقسمة، وذلك بسبب تسارع وتيرة حركة التطور في المجتمعات الحديثة. وربما كان تسارع حركة التطور هو ما يوحي بأننا أمام فترات تاريخية جديدة كل الجدة. وهذا بالضبط هو ما يحدث اليوم نتيجة التسارع المتزايد للتطور التكنولوجي الذي تنعكس مفاعيله وآثاره على جل المجتمعات وداخل كل مجتمع على حدة. يقودنا شيوع تسمية أو مصطلح ما بعد الحداثة إلى التساؤل: هل نحن (العالم المتقدم والعالم التابع) فعلا أمام تحول تاريخي مفصلي، أمام فترة تاريخية جديدة من تاريخ العالم.. أم نحن أمام تحول تدريجي داخل نفس الحقل التاريخي، وهل ما بعد الحداثة هي فترة أم عصر، تحول كمي أم تحول نوعي، هل هي انفصال وجدة عما قبلها، هل هي تجاوز لما قبلها أم استمرار لها.. إلى غير ذلك من الأسئلة الحادة. وقد قادتنا مثل هذه التساؤلات إلى افتراض وجود أقواس داخل حركة التاريخ أو فترات ذات سمات خاصة من بينها خصائص ثقافية بمعنى أذواق وأمزجة فكرية سائدة وموجهة تستند على تقسيم العصر إلى مفاصل كبرى، وهو ما يؤدي إلى تحقيب عصر الحداثة إلى فترات تاريخية كبرى تضم داخلها أقواساً تاريخية: = 1500- 1850 الفترة التمهيدية للحداثة. = 1850- 1950 فترة الحداثة الظافرة. = 1950- الآن فترة «ما بعد» الحداثة. وكل التساؤل المطروح هنا هو التفكير ما إذا كان العالم قد خرج من مرحلة إلى مرحلة تاريخية أخرى جديدة كل الجدة. فما هو المزاج الثقافي- الفكري لهذه الفترة الأخيرة ما هو ذوقها أو نكهتها؟ وما هي الأساطير (بمعنى الحكايات الصغرى والكبرى الضمنية) الموجهة لها؟ إذا كانت الحكايات الكبرى الموجهة للحداثة تتجمع في مقولات العقلانية، ومركزية الإنسان، والكونية، وأقنوم التقدم، والتاريخانية، ونزعة التحرر، وتوجيه السياسة نحو الفصل بين المقدس والدنيوي ومستتبعاتها أو مشتقاتها المتمثلة في الديمقراطية وحقوق الإنسان... وهي المقولات الفكرية الضمنية التي شكلت البنية التحتية للحداثة، وإذا ما وسعنا التحليل وأرخينا مسامير المفاهيم قليلاً واعتبرنا أن هذه المقولات هي بمثابة «ذوق اليوم» أو نكهة أو مزاج فإن بالإمكان الزعم بأن مزاج ما بعد الحداثة يقوم على مرونة أكبر للمقولات السابقة. فما بعد الحداثة هي أقرب ما تكون إلى حداثة مرنة غير متشنجة من حيث، أنها تمج التعارض الحاد والصارم بين العقل والحس، بين المتخيَّل والواقع، بين المقدس والتاريخ، بين الفردانية (الجامحة) والجموعية، كما تمج مفاهيم حاسمة وقاطعة كالقطيعة، وصفاء المفاهيم وخلاصية الشعارات. فالمزاج الثقافي ما بعد الحداثي هو أقرب ما يكون إلى عقلانية موسعة أو مخففة تشمل العقل (الصوري الصارم) والحس والخيال والوجدان، والحلم، واللهو، وإلى زمانية رخوة متمركزة على الحاضر بدل الانشداد الكامل إلى المستقبل، وإلى تريب تجاه مركزية مقولة التقدم وهالتها الأسطورية، وإلى النزول من الحكايات الكبرى أو بلغة نيتشه من السياسة الكبرى إلى سياسات أو حكايات أو سرديات نووية صغرى، وكذا إلى نزع الفتيل بين الفردانية والجموعية مما يشي وكأن ما بعد الحداثة هي حداثة نزعت أظافرها وأشواكها و»أساطيرها» وأصبحت حداثة رخوة أو حداثة «مخففة» (Modernité Leight). فإذا كانت «ما بعد» الحداثة في نظر بعض المتخصصين رد فعل (Reaction) على الحداثة وعلى الأنوار ومراجعة لها فإن رد الفعل هذا هو تسوية وصلح ومراجعة سلمية للمقولات المهيمنة للحداثة. نحو هذا الرأي اتجهت العديد من التحليلات الفكرية (ليوتار- باومان- مارسيل غوشيه...). وذلك مقابل مواقف أكثر تصلباً إما تجاه الدفاع عن صفاء وصلابة مقولة الحداثة (هابرماس) أو مواقف أكثر راديكالية في الدفاع عن جدة وضرورة ومرونة ما بعد الحداثة (مافيزولى ولييوفتسكي وجيدنز ودي سبونفيل...). يرى الأواخر أن العالم المتقدم قد دخل مرحلة جديدة مختلفة ومنفصلة عن المرحلة السابقة لأن التحولات التي حدثت في كل المجالات هي من العمق والجدة، بحيث لا تنفع النماذج النظرية السابقة في فهمها. فأفول اليوتوبيات الكبرى (وهو المعطى الذي جعل السياسة بلا طعم وسرابا بلا أمل)، وتنامي نزوعات التعدد والتذرر، والعودة القوية لآمال التعالي، والحضور القوي للحاضر ولليومي، ولأنواع رخوة من العقلانية وطفوح الحقائق الصغيرة، وانبهام مشاهد الأمل في التقدم، وَسَمَ حركة التاريخ بأنها أصبحت أقرب إلى التذبذب بين المراوحة والتراجع وترنحات التقدم... هذا بينما يرى الأوائل أن الحداثة تجب ما قبلها، وأن كل ما يعتمل ويبدو، إن هو إلا لحظة ثانية من الحداثة تراجع فيها هذه ذاتها، بل تنتقد ذاتها وتتحلل من الكثير من المثاليات التي رافقت نشأتها، وكما قال ليوتار عرّاب ما بعد الحداثة، فإن هذه الأخيرة لا تعني نهاية الحداثة والحداثوية، وإنما تعني فقط، نمط علاقة جديد مع الحداثة أو بتعبير مارسيل غوشيه فإن ما بعد الحداثة هي الحداثة نفسها وهي تتفاقم.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©