الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

جاسم الصحيح ·· رؤية مختلفة للوطن والإنسان

جاسم الصحيح ·· رؤية مختلفة للوطن والإنسان
5 أكتوبر 2007 22:27
جاسم الصحيح نجم لمع في ثريا الإمارة الشعرية التي انبثقت من سماء أبوظبي وسطعت على الفضاء العربي ، وهو شاعر شاب سعودي يحمل هم وطنه بأبجدية جديدة كما يقول ، كاشفا عما وراء حنجرة المغني الصادحة ، وجاعلا من البحر شيخ الرواة في ملحمة الوجود الإنساني · وهو مدين ـ مثل رفاقه من كوكبة الشعراء الذين اكتشفتهم ـ للنقاد والمشاهدين العرب بفرصة التوهج دون احتراق ، والتألق بغير غرور ، والشهرة بعيدا عن الابتذال· وقد استطاع عبر اختياراته المتتالية للنماذج الشعرية التي قدمهاِ، فضلا عما نشره من قبل ، أن يؤكد حضوره الإبداعي اللافت ، وتمكنه الأسلوبي المثير للإعجاب ، بالرغم من تمسكه الظاهر بالشكل العمودي القادر على استقطاب الأسماع ، مع بعده عن إشباع أنصار تيارات الحداثة المتمكنة في الوجدان الأدبي الطليعي ، مما يشهد لهذا الشكل الشعري الذى كان يعتقد أنه قد غرب عن سماء الإبداع بأنه لا يزال يتمتع بحيوية لم يتجاوزها الزمن بعد ، وبأنه يقتسم الخريطة الشعرية مع الأشكال التي تطورت عنه أو خرجت كليا عليه ، الأمر الذي يدفعنا لتأكيد ضرورة الاعتراف بأهمية تعدد الأساليب والأشكال ، لدوره الحاسم في تنمية الثراء الفكرى والإبداعي ، دون نفى للقديم أو تجاهل للحدث· مشاجرة الوطن يتخذ جاسم الصحيح موقفا نقديا جسورا حينما يؤثر أن يعبر عن حبه العميق لوطنه بطريقة ناضجة واعية فيما يسميه '' الشجار '' على اعتبار أن '' أغلى المحبة ما يكون شجارا '' ولكنه شجار ذكي مثقف ، يبدأ بتعداد المآثر قبل أن يتطرق إلى طرح الطموحات بشكل فنى أخاذ إذ يقول: وطـــــني، وليس على تضــاريس المدى وطـــــــن عليــــــه الأنبيـــــاء ســهـارى فتعــــــــال نكســــــــر جــــــرة الغيــــــم التـى حــوت الهموم ونفضح الأمطارا لا ســــــــر بعـــــــدك ، أنت آخــــــر نجمــــــة طــــىّ الســــــــماء تخبئ الأســـــرارا وطـــن ''النصوص المدرســــية'' لم يعـــــد وطـــــــنـي وإن ألقمتـــــه أشــــــــــعـارا ما العــــود دون غنـــــــاه غــــير جريمــــــة الأخشــــاب ساعة تصلب الأوتارا صــــــدئت حجــــــارة جســـــرنا وكـــــأنمـا آن الأوان لنصقـــــــــل الأحجــــــــارا كنايتان بليغتان تعبران عن صورة الوطن كما تفرضها السلطة المجتمعية، باعتباره كيانا مثاليا لا ينتقصه شيء ، وهى صورة ساذجة ترسمها ببلاهة '' النصوص المدرسية '' وتلقمها للأطفال بالرضاعة ، وتكون صدمتهم شديدة عند افتقادهم للوعي النقدى اللازم في الكبر · أما الكناية الأخرى فتتمثل في '' صدأ الأحجار '' الذي ينم عن التقادم والتباعد عما يفرضه العصر من منطق التطور وصقل الحضارة الحقيقية، وشاعرنا يكتفي من هذه القيم التقدمية بما يراه ضروريا إذ يقول: مـــــا أنــت يا وطني مجـرد طينــة فأصـــــوغهـا لطـــــــفولتي تذكـــــــارا حاشا ولســـــت ببقعـــــة مربوطــــة قيـــــــد المكــــــان أقيســــــهـا أمتــــــارا بل أنـــت يا وطنــــي مـدى حــريتي في الأرض حـــين أعيشها أفكارا وهنا حدودك في المشاعر داخلي مقـــــــــدار ما نحـــــــيا معا··أحـرارا مقدار ما نعطي التراب حقوقـــــه فـــــــي المبــــدعين فـــــيزهر النـــــوّارا ولست أعرف رسما لفضاء أي وطن أدق ولا أجمل من قياسه بمدى حرية أبنائه في مجتمع يعرف حق مبدعى العلوم والفنون والأشعار ويسقى التراب بحقوق إنسانيتهم ومواهبهم الخلاقة حتى تزهر بعيدا عن الجهل والغرور والتعصب وعداء الحضارة· صياغة الإنسان يهدى جاسم الصحيح قصيدته '' ماوراء حنجرة المغني '' إلى أعوامه التي قطعها في نظم الشعر ، فأعادت صداقة '' آدم الشعر ''ـ كما يقول ـ صياغة '' آدم الإنسان '' فى داخله· وقد أثارت عبارة '' حنجرة المغني '' في ذاكرتي أصداء نفثة شعرية تجلت فيها عبقرية شوقي وتواضعه ، عندما جاءته الوفود العربية منذ ثمانية عقود بالضبط لتبايعه بإمارة الشعر، فرد عليهم بقصيدة تقطر رقة وأدبا يصف فيها موهبته بقوله: وتــــــر في اللهــــــاة ، مـا للمغـــــنّي مــــــن يـــــــد في صفــــــائـه أو ليانـــــه على أن شوقي لا يقبع خلف قصيدة جاسم، بل سنعثر على قامة أخرى رفيعة تظلل فضاءها، بعد أن نرى كيف يصف شاعرنا تجربة قائلا: أنــــا المعتّـــــق فى الإبريق·· ما انفرطت روحي من السكر إلا قيد أحجية في صحة الشعر ألوى من زجاجتـــــه جيدا، وأسكب تشبيهي وتوريتي كـأننــــى والحمــــيّا حــــــين تــــــرعشـــنـى علقــــــت مــــــابين أســـــلاك مكهـربـة وحدى ولكن أشــظى وحــدتى بشـــــر فينطـــــوى في فؤادي كون أفئـدة صليت للخلق، كـل الخلق، واتســـعت لما وراء خطوط الطول صومعتي همس النسيم خرير النهر·· انمسحت من الخطوط فقلبي وحدة الكـرة وعلينا أن نهش عن ذاكرتنا أسراب الصور التي تستدعيها تلك الأبيات من الشعر العربى، خاصة القطاة الراجفة عالقة الجناح في أسلاك الكهرباء عند شاعرنا لنركز على بؤرة النص الدلالية، حيث يحقق الشاعر لوطنه أفسح مدى للحرية إذ يحتضن الكون كله ليعبر عنه بلغة مجازية ممعنة فى صوفيتها ، تترنح سكرا وهي تشرب في صحة الشعر، معلقة فى فلك شيخ المحبين محي الدين بن عربي غير عابئة بالمحرمات المحظورة وهي تتغنى بالوحدة عبر التشظي، وتقيم الصلاة لكل الخلق متسعة لكل ألوان الوجود وأنغام الطبيعة، وكأن شاعرنا يعيد بلغة عصرية صياغة أبيات ابن عربي الشهيرة: لقد صار قلبي قابلا كل صورة فمــــــرعى لغــــــــزلان وديــــــر لرهبـــــــان وبيت لأوثـان وكعبة طـائف وألــــــواح تــــــــوراة ومصحــــف قـــرآن أدين بدين الحــــب أنى توجهـت ركــــائبه فالحـــــــــــب دينـــــــى وإيمـــــــانى والعجيب أن ما وصل إليه فيلسوف الأندلس العظيم فى القرون الوسطية من تمثيل لجوهر الحقيقة الدينية والروح الحضارى الأصيل ، بالرغم من حروب الأديان التي كانت مشتعلة حينذاك أصبحنا نحسد الشعراء والمفكرين على مجرد الاقتراب والاقتباس من جذوته وبناء المواقف المستنيرة عليه· البحر شيخ الرواة عندما تستمعن أدوات الشعراء المعرفية والفنية، ويشرعون فى تحقيق منجزاتهم الجمالية، يتجاوزون مرحلة ردود الأفعال الموقوتة فى تسجيل تجاربهم وينطلقون بمبادرات شخصية بحثا عن فضاءات كبرى تتسع لعرض مواقفهم وتشكيل رؤاهم بالاشتباك مع قضايا الوجود الساخنة ،وغالبا ما كانت عناصر الطبيعة الأولية من ماء وهواء ونار وتراب مادة أساسية لهذا التفاعل الإبداعي الخلاق، خاصة منذ ازدهار الحركة الرومانسية المشبوبة في الشعر العالمى واجتياحها للوطن العربي، عبر ثلاثة تيارات من المهجر إلى الديوان وأبولو، لكن العقود الأخيرة قد أخمدت إلى حد كبير، بصراعاتها الأيدولوجية، ومنجزاتها الفكرية والفنية هذا التوهج العاطفي الرومانسي، ولم يبق أمام الشعراء سوى أن يسوّي كل منهم عالمه بمواصفاته الشخصية وملامحه الذاتية الخارجة من نسق الجماعة إلى حد كبير · وقد استطاع شاعرنا الشاب جاسم الصحيح أن يعيد تشعير البحر بقوة تذكرنا بما فعله منذ عقود الشاعر المخضرم السبعيني محمد إبراهيم أبو سنة في ديوانه '' البحر موعدنا '' مجترحا مسؤولية التحديث التصويري والإيقاعي، بل يردنا جاسم إلى الموقف الفكري التأملي الذي شرعه خليل مطران في قصيدة '' فى المساء '' مثلا أو اختطه إيليا أبو ماضي فى قصائد '' الطين'' و'' لست أدري'' وغيرها التماسا للحكمة والتثقيف الوجداني· ولأن قصيدة جاسم طويلة وفضفاضة لم تتحدد في مقاطع مفصلة أو حركات محسوبة فسأكتفي بأبيات من مطلعها وأخرى قرب ختامها كي نتبين رؤيته الفكرية والشعرية الطريفة للبحر إذ يقول: يا بحر يا شيخ الرواة على المدى متعــــــــوذا مــــــن مــــــــوجــــــــة تتلعثـــــم حـــــرية الكلمــــات فيك تقاصــــرت عنهـــا اللغـــــات ولم يســـعها المعجـم هذا لسانـك هـادر بحكـايـة الإنســـــــان يخــــــتزل المـدى ويحجم فالمد والجزراختصـار عوالـم في الأرض تبنيها العصــوروتهدم وإذا كان لي أن أشيد بالموقف الفكري والوجداني للشاعر المشغول مثلي بقضايا حرية التعبير لدرجة أنه لا يرى في البحر إلا نموذجا لتدفق الكلمات الهادر دون رقابة أو حجاب ، فكأنه هو الذى يتولى الكلام والرواية منذ الأزل بطلاقة لا يعوقها أي تلعثم فإن أسلوبه الشعرى الذى يرصد المشهد من الخارج لا يختلف كثيرا عن أسلوب الشعراء الإحيائيين والرومانسيين منذ شوقي حتى مطلع الحداثة، فتوالى التشبيهات المدوّمة بإلحاح ينبض بالعمق يذكرنى على وجه التحديد بقصيدة شوقى عن '' أبي الهول '' التي يقول فيها: كأن الرمال التي على جانبيك وبـــــين يـــــديـــك ذنــــــوب البشــــــر ومجموعة الثنائيات التي يتكئ عليها جاسم فى بناء مفارقاته الدلالية من مد وجزر وبناء وهدم، ومحو ورسم ونمو وعدم، هى ذاتها التى اعتمد عليها الشعراء من قبل، دون أن يحاول شاعرنا النفاذ إلى صميم هذه الجدلية بالانصهار في بوتقة القوانين الكلية الكونية والوصول على طريقته الخاصة لموقف متميز ينفرد به · على أن شاعرنا ـ مثل سابقيه أيضا ـ شديد الحساسية إزاء مسألة الخلق الشعرى التى تمثل المرتبة الأسبق فى الأولوية عند الشعراء الذين يعتدون بموهبتهم إذ يقول: يا بحر··كان الشعر بوصلة الهوى فــى القلــــب يقفـــوها بدورتـــه الـدم الشعـر صنوك فى الخلود كلاكما قِدم على الدنيا ·· فمــن هو أقـدم؟ والشعر صنوك فى الجلال كلاكما عِظم على الدنيا ·· فمن هو أعظم؟ وبهذا يصل الشاعر الشاب إلى ما يبتغيه من توحد مع جمال البحر وحريته وخلوده عبر الشعر المقترن به، وإن كان يفعل ذلك في صحبة الشعراء الذين مازال يخطو في موكبهم المهيب·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©