الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

نحو رؤية عربية للحداثة( 3-3)

نحو رؤية عربية للحداثة( 3-3)
9 أكتوبر 2007 22:15
لا يفارق هذا التصور ما نسميه الحوارَ بين الحداثات، حيث تستفيدُ كل حداثة من تجارب غيرها، وتتفاعلُ مع أشباهِها ونظائرها، خصوصا في العالم الثالث الذي تنتسب إليه، أو العالم الأول الذي لابد أن نضع حداثاته موضع المساءلة النقدية، بما لا يجعلنا في موضع التابع السلبي أو المقلِّد العاجز، ويكتسبُ هذا البعدُ أهميةً خاصة في هذا الزمن الذي تحول فيه العالمُ إلي قرية كونيةٍ لا يمكن الفصل بين أجزائها، ولا الانعزال فيها، خصوصا بعد الثورة المذهلة في تكنولوجيا الاتصالات والتراكم المعرفي الرهيب الذي أصبح من سمات عصر المعلومات· ويكمل هذا التصور أنه بقدر مالا تستطيع أية حداثةٍ الانفصال عن غيرها من حداثات العالم، إفادة أو حوارا أو نقدا، فإنه لا حياة لأية حداثة بانقطاعها الكامل عن تراثها الذي يمكن أن يتحول إلى قوةٍ دافعةٍ، في لحظاته المضيئة، أو قوة معرقلةٍ في لحظاته المظلمة· ويعني ذلك ضرورة المعرفة الكاملة بالتراث ووضعه موضع المساءلة، وإدراك التباين بين تياراته الأساسية· ومن هذا المنظور يمكن أن نتحدث في تراثنا العربي، مثلا عن أربع تيارا: تيار العقلانية الذي يمثله المعتزلة والفلاسفة، والتيار الإنساني الروحي الذي يمثله المتصوفة، والتيار العلمي التجريبي الذي يمثله أشباه جابر بن حيان والحسن بن الهيثم وغيرهما· وأخيرا، التيار الذي يضم أهلَ السّنة بمذاهبهم الأربعة من ناحية، والتيارُ السلفي الذي تحوّل إلى تيار اتباعي جامد، يحول دون التقدم من ناحية مقابلة· ومن يريدُ أن يفيد من التراث في تأصيل حداثته أو تجذيرها، عليه باختيار التيار الذي يتقارب وتوجهاته الحداثية، ويدعمها بما هو قادرٌ علي دفعها· والعقلانية هي الوجه الآخر للنزعة الإنسانية من هذا المنظور الذي لابد من إعادة قراءة التراث في ضوئه· ولا ينبغي أن يغيب عن أذهاننا الإفادة من تعامل غيرنا مع تراثه الديني بوجه خاص وخلق صيغ توفيقية باهرة، ما أجدرنا بتأملها (اليابان)· والاختيار أمر حتميٌ لمن يريد أن يدعم التوجه إلي المستقبل بما يسنده من ميراث الماضي الابتداعي وليس الاتِّباعي· ولا تنفصل عن المعرفة بالتراث - في هذا الجانب - المعرفةُ باللحظة التاريخية التي يتحرك فيها وبها فعل الحداثة، وذلك بكل شروطها السياسية والاجتماعية والثقافية التي لابد من الانطلاق منها، والبحث عن صيغ جديدة فاعلة لمواجهتها من ناحية، ومجاوزتها من ناحية مقابلة، ويعني ذلك عدم القفز علي المراحل التاريخية، أو حرقها، أو تجاهلها، فلا يمكن الانتقالُ من فكر مجتمع تقليدي، غارق في التخلف، إلي فكر مجتمع ما بعد حداثي، ونحن لم ندخل أبواب الحداثة أو نقرعُ أبوابها بعد، ولا نزال نعيش في زمن ما قبل القبل من الحداثة· ولا شك أن الوعي باللحظة التاريخية هو الذي جعل جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده أكثر تأثيرا من شبلي شميل، وعلي عبدالرازق، ومصطفي عبدالرازق أكثر فاعلية من إسماعيل أدهم، ومحمود الخضيري أعمق تأثيرا من إسماعيل مظهر، أولا لأن إدراكهم للشروط التاريخية لمواقعهم ساعدتهم علي صياغة خطاب ؟يصل إلي قطاعاتٍ ودوائرَ واسعةٍ في هذا الواقع، دون تعال عليه أو تجاهل لشروطه· ولا شك أنه لا يمكن لأي فعل حداثي - أيا كان المسمى الذي نطلقه عليه - أن يسهم في الانتقال بمجتمعه من شروط الضرورة إلى آفاق الحرية إلا إذا كان الفاعلون لهذا الفعل على مستوى الخبرة العميقة بالواقع وجرعات الدواء اللازمة له ومواصفات الخطاب الذي يخرجهم من حوارات الغرف المغلقة إلى التأثير الفعال في ثقافة المجتمع وإشاعةِ الاستنارة فيه· ولا ينفصل عن هذا الشرط الأخير ما يجب أن يوازيه في عقل المثقف الذي لابد أن يجاوز مرحلة الاتباع والتقليد إلى مرحلة الاجتهاد والابتداع· ولا يغيب عن أذهانكم أننا لا نزال نستهلك المعرفة الوافدة من العالم المتقدم ولا نسهم في إنتاجها، وذلك بسبب تخلف قوي إنتاج المعرفة في بلادنا · وأتصور أن الوعي النقديَّ وروحَ المساءلة يمكن أن تكون مدخلا أوليا لمجاوزة هذا القصور المعيب، فنحن ألسنا في حاجة إلى صور مكرورة وإنما إلى عقول مبدعة· ومن حسن الحظ أن بعض مثقفينا، رغم ندرتهم، وصل إلى درجة باهرة من التميز على مستوى العالم كله، ابتداء من إدوارد سعيد الفلسطيني وليس انتهاء بعبد الفتاح كيليوطو المغربي في مجال النقد الأدبي، أو سمير أمين المصري والعروي المغربي· وغيرهم من القلة القليل جدا التي جاوزت عقلية النقل ووصلت إلى مدى الإضافة· ولا يرجع ذلك إلى تحسن شروط إنتاج المعرفة وعلاقاتها في المجتمعات الغربية فحسب، وإنما في الوقت نفسه إلى سلبية الوعي النقدي عندنا، كمثقفين وعجزنا، في حالات كثيرة، عن المساءلة الجذرية لما نأخذه عن الغرب الأوربي - الأميركي، والنتيجة هي عجزنا عن صنع كليات جديدة، وابتكار حلول غير مسبوقة على المستوي الفردي قبل الجمعي· وتحقيق هذه المهمة ليس مقصورا علي المثقف المدني وحده، بل يجاوزه إلى رجل الدين الذي لا يزال عاجزا عن الحوار مع العصر، ذلك لأننا تركنا عالم أمثال محمد عبده الذي لم يكف عن التفكير في العلاقة بين الإسلام والعلم والمدنية، ودخلنا عالم أسامة بن لادن ومصعب الزرقاوي، وغيرهما من الأصوليين المسلمين والمسيحيين على السواء · إن رجل الكنيسة؟ الذي اعترض علي عرض فيلم ''بحب السيما '' - مثلا - لا يختلف جذريا عن المفتي الذي أفتى بتحريم التماثيل الكاملة، حتى للعظماء· وأعتقد أن الخطوة الأولى للخروج من هذا المأزق الخانق هي أن نبدأ بأنفسنا، وأن يبدأ كل منا في مساءلة طرائق إدراكه لنفسه وللعالم من حوله، مندفعا مع روح المساءلة التي لابد أن تبدأ من الفرد، وتمر بالمجموعة القليلة الطليعية، فتتكون منها بذرة الزمن القادم الآتي بما يمكن أن يحقق الأحلام· ولا بديل عن ذلك إلا إدانة الذات، وعدم الاكتفاء بإلقاء اللوم على غيرنا بدل أن نبدأ بأنفسنا وأن نغير لحمة العقل وسداه داخل كل واحد منا· ولنبدأ بأن نتعلم آداب الحوار من جديد، واحترام حق الاختلاف وليس استخدامه شعارا دون مضمون فعليّ، ونحترم الشك والتجريب والمغامرة عند غيرنا، والتمثل النقدي لأصول أي مجال معرفي قبل ادعاء المعرفة به، أو الثرثرة الجوفاء عنه· وعلينا - بالقدر نفسه - أن نؤمن بنسبية المعرفة، ونجعل الأولوية للعقل والتفكير العلمي دائما، ونكون قدوة لغيرنا في نبذ منطق الخرافة، وقس على ذلك غيره الكثير، فهل نفعل ومن أين نبدا ذلك هو السؤال الذي ينبغي أن يجيب عنه كل واحد منا في صدق جارح مع النفس، من غير آليات دفاعية، أو تبريرات هروبية·· والسلام·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©