الخميس 18 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

يوميات مثقفين عادوا إلى العراق

يوميات مثقفين عادوا إلى العراق
22 ابريل 2009 22:59
ماذا يحصل للمكان القديم عندما نغادره لسبب ما؟ هذا ما خطر ببالي وأنا أقرأ ثلاثة كتب سيرة ويوميات لثلاثة مثقفين عراقيين غادروا العراق الى المنفى هربا من دكتاتورية لم تكن ترحم أحدا، وظلوا سنوات طويلة تجاوزت الربع قرن يحلمون بذلك المكان وأهله، حتى تجمدت صورته وصورتهم في الذاكرة. ثم حصلت الحرب على العراق في العام 2003 وسقط النظام وعاد عدد كبير من المنفيين لزيارة قصيرة او للاقامة، ومن بينهم اصحاب الكتب التي سنعرض لها هنا. كيف رأى هؤلاء المكان القديم وكيف حاولوا استعادته من الذاكرة؟ ما الذي حصل فترة غيابهم؟ كيف تعامل واحدهم مع الواقع الجديد في الوطن وقد انتفت عنه صفة «المنفي» وصار عليه ان يعود الى «المواطنة» يرمم الجسور بينه وبين الأشخاص والمكان. هل يعود المرء فعلا الى المكان نفسه، أم الى مكان احتل بزمن واشخاص وإيقاع مختلفين تماما عما ترك الحال عليه؟ تساؤلات كثيرة تحركها قراءة الكتب الثلاثة التي دونها شاعر وناشر هو خالد المعالي، روائي ومترجم هو لؤي عبد الاله، ثم زهير الجزائري الروائي والصحفي. في كتاب «جمعة يعود الى بلاده» الصادر عام 2007 عن دار الجمل في 257 صفحة، يسترجع الشاعر خالد المعالي الماضي وهو يسير باتجاه حاضر العراق، متخفيا خلف اسم جمعة مرة وصريحا بضمير المتكلم تارة اخرى. وجمعة ولد ذات يوم من عام 1956 تحت خيمة في الصحراء بجنوب لعراق بالقرب من مدينة السماوة. قضى طفولته يرعى الغنم والعصى اعلى من قامته. سيظل ذلك المكان مرجعية لمفرداته وصوره بعد خمسين سنة على تلك الولادة، الخيمة، الغبار، الصحراء، القحط، والجمل الذي منحه لاحقا لدار النشر التي اسسها. قضى سنوات المنفى يحلم بالماضي، وبشخوصه واماكنه، لكنه لم يستطع التعرف عليها في بداية عودته. كانت الملامح مخزنة بالذاكرة بتفاصيل تجمدت عند الزمان والمكان، الشخوص والبرية والمدينة التي شهدت صباه وقراءاته. «اليوم اشعر وكأني أنهيت دفن موتاي». يقول، فقد عاد الى المكان الأول ولم يشهد الا الوجوه الهرمة، أبوه رحل والطبيعة غيرت نفسها. كان ذلك أواخر عام 2003. ترك العراق عام 1978 بعد نشر مجموعته الاولى وبعد ان أغلقت الدار التي كانت توزعها، وأغلق كل شيء في وجهه لانه لم يكن عضوا في حزب العبث كما فرض النظام الدكتاتوري على شعبه. خرج من عالم الكتب التي كان يقرأها في عراء الصحراء، وحلم فيها بعوالم اخرى في ايطاليا وفرنسا وغيرها من اماكن يقرأ عنها في أشعار وروايات الكتاب الغربيين. سيكتشف لاحقا ان اضواء تلك العوالم ليست متاحة للاجئ تشرد في اوروبا قبل ان يستقر به المقام في ألمانيا، مقبولا بصفة رسمية بلجوئه السياسي. كان كلما حدث تغيير بسيط في بلاده، حرب او تمرد، اقترب العراق اليه وحلم بالعودة السريعة. الاحلام سراب في صحراء ذاكرته، فقد طال المنفى لربع قرن. وظلت مقولة ابيه له قبل سفره تقوده دوما في تجاربه، «ابني لا تترك رسنها يضيع من يديك»، وكان يعني الحياة!. ترقيع الذاكرة يستعيد خالد المعالي في سيرته ماضيه ويحكي عنه بحميمية واضحة، من غير ان يتنكر لكل اشكال الفقر في مفردات المكان والحياة اليومية في الصحراء. وعندما يعود لزيارة العراق يصر على رؤية الاشخاص الذين شكلوا جزءا مهما من ذلك الماضي، ومن بينهم الحبيبة التي كان يتشارك معها قراءة الكتب، ليجدها متزوجة كفت عن انتظاره طوال تلك السنوات، محجبة يحيط بها الزوج والاولاد مثل ساتر منع حتى اكمال جملة واضحة بينهما. يبدو جمعة، او خالد المعالي. وفي لقاءاته مع الاهل والأصدقاء والامكنة، يحاول ان يرقع الذاكرة بتفاصيل الجديد على ارض الواقع، كي لا يتركها مملوءة بالفراغات. نرى من خلال عينيه كيف ان المدينة تريفت والنهر جف مجراه، والنخيل بهت لونه. المتعاونون مع النظام السابق تخفوا بملابس العشيرة او مسوح الدين والطائفة. ينقل مقولات محملة بخبرة سنوات القمع على ألسنة البسطاء الذين عانوا الامرّين في عهد نظام صدام، تقول اخته «في عهد صدام كل شيء اختفى حتى الدود»، في اشارة الى تحويل مجرى النهر الذي تم في عهده وكان يحمل لسكان المنطقة الماء والسمك والدود. وفي مضافة اجتمع فيها الاهل والاقارب بمناسبة عودته، وما كان يسمح لهم ان يجتمعوا بهذه الطريقة من قبل، يقول صاحب المضافة انه لم يرفع صورة للرئيس العراقي على جدار في بيته من قبل، ولكنه الآن يرفعها بعد ان اعتقل، كي يظل يتذكر تلك الحقيقة! في الكتاب نبرة عتب تكون حادة احيانا يوجهها المعالي الى المثقفين العرب ممن اشتغل بعضهم في المطبوعات التي كان يدعمها النظام السابق، فوقف في وجه زملائه العراقيين المضطهدين المنفيين من بلادهم، بدل مساندتهم والتضامن معه. لكن وجبة جديدة من المثقفين تقف لخالد المعالي بالمرصاد عندما يعود من زيارة العراق بعد الحرب، مجموعة معارضة للحرب ولأميركا، ولا تريد ان تسمع عن سلام الروح الذي يعيشه الناس بعد ان تخلصوا من ذلك الكابوس الذي قبع على صدورهم ومنعهم من الحلم والحياة معا. خطف الأصحاب الممانعون منه فرحته وهو العائد لتوه من بلاد كان محرما عليه زيارتها. لقد ربح بلدا حقيقيا محل البلد الخيالي الذي كان اقرب الى الحلم منه الى الواقع، البلد الذي يعرفون هم عنه من شاشات التلفزيون فقط، من غير ان ينتبهوا الى انه «قد أصبح للمنفي بلاد يمكن أن يزورها إن أراد»!. الأرض الخراب آخر ما يتذكر لؤي عبدالاله من البيت الذي غادره في بغداد قبل ست وعشرين سنة على أمل أن يعود بعد عامين او ثلاثة، سوره الواطي وبابه الحديدي، وامه وهي ترمي بسطل الماء ضمانا لعودته، بحسب اعتقادها. لكنه عند عودته للزيارة أواخر العام 2003 وجد البيت قد بيع أكثر من مرة، ومعالم البيت اصبحت مختلفة عما كانت عليه، وغادرت الأم عالم الأحياء. في كتاب «مفكرة بغداد/ يوميات العودة الى مسقط الرأس» الصادر عن سلسلة «ارتياد الافاق» في ابوظبي عام 2004، تنطلق رحلة الكاتب من لندن لتحط في دمشق، المحطة التي سينطلق منها الى بغداد. لكنه هذه المرة يخامره شعور باللامبالاة تجاه مدينة كان يعتبرها الام البديلة لبغداد، كأن توفر الاصل يلغي البديل. غير انه وقبل العودة الى الاصل، يتلقط اخباره من صديق زاره للتو وعاد متشائما من الوضع برؤية سوداوية للواقع، وقد انتشرت المظاهر المسلحة للاحزاب الدينية وفرض الحجاب على النساء حتى طالبات الجامعة، الى آخره من فوضى ما بعد الحروب. وكأن كلام الصديق وبداية الرحلة التي اتسمت مشاهدها بالنباتات الشوكية واعمدة الكهرباء المائلة والصحراء الترابية القاحلة، مقدمة لما سيحدث لاحقا، فقطاع الطرق سيهاجمون السيارة التي تقله مع صديق لتنهب منهم ما تستطيع من مبالغ تحت لعلعة الرصاص. ارتال القوات الاميركية التي تسير بالقرب منهم في بعض الاحيان لم تتمكن من اسعافهم. والسائق الشاب الذي لا يعرف الى أي زمن ينتمي، يدافع عن النظام السابق ثم يتراجع بعد ان يطمئن للراكبين معه، فالخوف لا يزال يتحكم بالنفوس. اجواء كابوسية تستبق دخول بغداد وتستبق سؤال سيكولوجي مشروع مضمونه: هل فقدنا الوطن ام خسرناه؟ قد تبدو البوصلة المرتبكة لحركة عبدالاله في مدينته، اجابة سلبية على السؤال في الايام الثلاثة الاولى وهو يشعر انه غريب عنها. لقد شوهت الاماكن التي بقيت في الذاكرة، اما بسبب قطعها امنيا لصالح الحفاظ على الدكتاتور السابق واعوانه او بسبب الحرب والفوضى التي تركتها على الاحياء الراقية والشوارع، مثل ابو نواس والمتنبي، حيث كانت دليلا على مظاهر التحضر في بغداد. يرتبك الزمن عندما يلتقي العائد بأقاربه ومعارفه ويجد مجايليه وقد بدوا اكبر من اعمارهم. العراقيون لا يزالون تحت شبح الخوف من الدكتاتور يتحدثون عنه بضمير الغائب، يشيرون اليه بضمير «هو»، اذ ليس من السهل التخلص من حضوره على حياتهم. امام سرقات المباني بعد ان قصفها الاميركيون، واللوحات الفنية التي تباع برخص على الارصفة، والقصص التي يسمعها عن تجارب السجون والتعذيب والملاحقة والقمع، يبدو لؤي عبدالاله غير قادر على قراءة الواقع بمفرده، فيستعين بمرجعيات كتاب وفلاسفة، علها تساعده في فهم واقع العراق السيريالي، من قصائد (ارض الخراب) لاليوت، الى النفري الى ابن عربي مرورا بجيمس جويس. خلال ثلاثة اسابيع تقريبا، تتأمل اليوميات اليومية المكثفة للروائي لؤي عبد الاله العراق بعد العودة اليه، بشيئ من الحيادية تقريبا، تاركة مسافة تلجم حدة الانفعالات العاطفية مع المكان والاشخاص. يخفت الحديث عن التفاصيل الشخصية الحميمة، الا ما ندر، ولا يظهر الماضي في هذا المكان بوضوح، الا بحدود رواية بعض المصائر تقريبا. عين الروائي المتأملة هنا تغلب عين المنفي المتلهف للعودة. شهادات من أنحاء العراق «في حرب العاجز، سيرة عائد/ سيرة وطن» الصادر أخيرا عن دار الساقي بلندن، للصحفي والروائي زهير الجزائري، مساحة زمنية اكبر لعراق ما قبل وما بعد الحرب. زهير اضطر أواخر السبعينات من القرن الماضي الى الخروج من الوطن باختيار شخصي قسري فرض عليه، بعد ان انهارت الجبهة الوطنية التي تحالف فيها الاحزاب مع حزب البعث الحاكم، وصار كل من هو غير بعثي ملاحقا، خصوصا الشيوعيين. منذ العودة الاخيرة وهو مقيم تقريبا في العراق. أتاحت له هذه الاقامة المستمرة منذ عام ربيع 2003، فرصة نبش الحاضر وتفاصيله بموازاة نبشه للماضي. في الزمن السابق قبضة حديدية وفظائع وخروقات للحريات ولحقوق البشر، بشكل لا يتصوره عقل إن لم يكن قريبا من تفاصيله. وفي الزمن الجديد فوضى خلفتها الحرب، بعد ان انتزعت السلطة من الجيش والشرطة وترك العراق نهب الجماعات المسلحة المقنعة، لدوافع طائفية، او للسرقات والنهب. لقد استبدل العراق مجموعة طغاة صغار بدكتاتور واحد، فالميليشيات والجماعات المسلحة صارت تحكم الشوارع، تقوم بعملها وهي ترتدي ملابس القوات الحكومية وتستخدم سياراتها وسجونها. ولكأن كل مشاعر التوتر والخوف التي صحبت عودة زهير الى العراق من المنفى، من انتظاره في دبي الى مظاهر الدمار التي تستقبل القادم من الحدود البرية الاردنية العراقية بعد انتهاء الحرب وسقوط النظام، كانت مشروعة وحقيقية بما تجلت عنه من مواقف في الايام اللاحقة. ستفتح سيرة وطن تبدأ بسماع شهادات العائلة والمعارف عن الماضي الجريح والفقد الذي تم فيه، الى تفاصيل الحياة اليومية بفوضاها ودمويتها. عمل الجزائري بعد عودته في الصحافة المكتوبة، وفي وكالة انباء خاصة بالعراق، واشرف على تنفيذ العديد من الافلام الوثائقية بعد سقوط النظام، وقد انعكست هذه الوثائقية بأسلوبها على كتابه الذي تعددت فيه الاصوات والشهادات. وقد ساعدته المهام التي تولاها على التجول في كل انحاء العراق تقريبا، تفقد الحياة فيها وسماع عن اشكال الموت الذي عانته. دوما كان هناك قطع لسرد الحكايات، فكل يريد ان يروي مروياته، وكل سرد يحيل الى حكاية جديدة، وهكذا يسمع بدايات قصص قد لا يصل صاحبها الى نهايتها بسبب الرغبة الحادة في نفوس هؤلاء الناس لاخراج المكبوت. الصغار لا يعرفون عن امور كثيرة في العراق والحرب كشفت لهم المستور. والكبار كانوا يخشون عليهم وعلى انفسهم، لا كلام عن المجازر ولا عن القبور الجماعية ولا عن الاعتقالات، الخوف شريك يومي في الماضي، بعد ان افسد النظام معاني الاخوة والقرابة والصداقة، بتشجيع الوشايات والتقارير، والبعض يسبق غيره معتقدا انه ينفد بجلده من القمع. يخبرنا الجزائري بحكايات عن المختبئين تحت الارض وكيف تبرمجوا على وحدتهم الموحشة، عن الفاقدين عقولهم ولم يستوعبوا بعد حقيقة ما حصل، فمنهم من يدعي انه صدام ومنهم، من يدعي انه يراه كأنه شبح يطوف في المدينة، كثيرون لم يصدقوا انه اعتقل او قتل، من شدة الخوف الذي عاشوا في ظله ايام حكمه. الداخل والخارج هناك ملحوظة ملفتة للنظر في كتاب «حرب العاجز» اذ يصف لنا الكاتب لحظة المواجهة بين المنفي والمثقف الذي جاهر بدعمه للدكتاتور، فكتب القصائد والمدائح، ويورد في كتابه بعض الامثلة عمن التقاهم في العراق. ايضا اشارته الى انقسامات جديدة نشأت بعد انهيار النظام، فإضافة الى الانقسام الطائفي الواضح، سنة، شيعة، عرب، اكراد، الخ، هناك انقسامات بين المثقفين انفسهم، شبابا ومخضرمين، يتنافسون على سدة الثقافة، من كان مع ومن كان ضد، ثم هناك الداخل والخارج، بين من عانى الحصار والحروب ومن عاد ليحصد المناصب المرموقة، ويذكرنا الجزائري ان غالبية مناصب رؤساء تحرير الصحف والمؤسسات الاعلامية والثقافية، هم من العائدين. والاخطر ان مناصب الدولة العليا كانت من حصة الراجعين من المنفى، وهم لم يقدموا على اية حال نموذجا ديمقراطيا مختلفا عن رجال الدولة البعثيين، وعاشوا في عزلة عن الناس. سمات مشتركة زهير الجزائري، لؤي عبدالاله، وخالد المعالي، مثقفون عراقيون ينتمون الى جيل متقارب في السن نسبيا. خرجوا من العراق الى المنفى في الفترة نفسها تقريبا، وبحسب الجزائري، هم جيل على وشك الانقراض، وقد سرق منهم الدكتاتور نصف حياتهم في المنافي. انعكست تلك السمات المشتركة حتى على يومياتهم بعد العودة، كل بأسلوبه ونظرته طبعا. ولكن اشتركوا في تفقد جغرافيا المكان بحميمية شديدة، باحثين عن ذاكرتهم وماضيهم في ثناياها، رافقهم شعور بالرثاء للتغيرات الكبيرة التي طرأت على المدن والشوارع والمقاهي، بالمعنى السلبي طبعا وليس بمعنى أي تغيير. كذلك فرحة اللقاء بالاشخاص وقد تغيرت سحناتهم بعد كل تلك السنوات الطويلة، وقد استمعوا منهم للمآسي العامة نفسها مع اختلاف تفاصيل اسماء الاشخاص، فما من كاتب منهم الا وفقد عزيزا قتل في الحرب، او اعتقل، او صفي من قبل النظام السابق. غير ان التفاصيل الموجعة للماضي لم تمنع الثلاثة ايضا من انتقاد وجود القوات الاميركية على ارض العراق ونتائج حربها على بلادهم. سير ثلاثة مثقفين عراقيين بعد عودتهم الى الوطن، هي شهادات في التاريخ المعاصر للعراق، تمنح قراءتها صورة جيدة عما تم فيه بعد الحرب وسقوط النظام. لا تكتفي الكتب باستجلاب المآسي فقط، فهناك في طيات الصفحات مواقف طريفة تجلب الابتسامة لوجه القارئ الذي سيستمتع بقراءة اليوميات.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©