الخميس 18 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

البحث عن غير المألوف في اليومي

البحث عن غير المألوف في اليومي
22 ابريل 2009 23:14
قبل أن أقرأ ديوان «زحام لا أحد فيه» للشاعر والروائي والسينارست محمد حسن أحمد الصادر عن مشروع قلم التابع لهيئة أبوظبي للثقافة والتراث، لابد أن أقف عند مصطلح المفارقة في تقديم اللمحة أو الصورة في الجملة أو النص. عندما يريد المبدع أن يقدم رؤية مغايرة في تركيب المعنى العام لجملة ما، بلاغياً، فإنه يعمد إلى بنية تناقض، أو تصادم بين كلمات الجملة الواحدة بمعنى الاشارة إلى العام أولاً ثم العدول إلى الخاص أو العكس، بتعدد أنماط العام والخاص. ولنقل إن العنوان «زحام لا أحد فيه» ينطوي على نمطين وهما عام وخاص أما العام فهو «الزحام» وأما الخاص «فلا أحد فيه» وبقدر ما يتناقض المعنى العام مع المعنى الخاص تولد المفارقة، أي هي محاولة نفي لطرف معادلة من طرف آخر ملتصق به. وكل ذلك ولّد لدينا صورة يمكن تمثلها تخيلياً بالرغم من هيمنة المجرد بكل افتراضات تأويله على تخيل الصورة التي نقبل بموضوعيتها وواقعيتها بالرغم من قناعتنا بعبثيتها واستحالة مطابقتها للواقع. والمفارقة في النص جانب آخر يعتمد على كيان أكثر شمولية وفنية أيضاً، فهو بقدر ما يحتوي على روح التناقض بين المقدمات والنتائج في أي نص أدبي فإنه قد يرتبط بعناصر لا حصر لها داخل النص الأدبي، قد يكون جزءاً من السرد أو الشخصيات أو الزمان أو المكان أو الفعل أو الوصف أو الحدث. إن تحول أو تصادم الفعل بين مقدمات هادئة ونتائج غير متوقعة يخلق ما يسمى بالمفارقة في الحدث أو في البنية السردية وبخاصة للنص الشعري. ومثالنا على ذلك أن الشاعر قد يستخدم في مقدماته لقصيدة ما أولويات يومية مألوفة مستقاة من العادي والمتداول وتحس لحظتها أن لا شعرية في هذا النص المقدم إلا أن المتلقي حالما يصل إلى انزياح النص الشعري من الواقعي «المقدم» إلى التخيلي في خواتيم النص وعدم تطابقهما يستدعي أن يقال إن النص الشعري حقق مفارقته، أي أن مقدمات النص ما هي إلا تمهيد لكي يفاجئ الشاعر متلقيه بما لم يتوقعوه وهذا لا ينطبق على الشعر وحده بل هو الجانب المهم في كل عملية إبداعية أو ما يطلق عليه نقدياً «كسر أفق توقع القارئ» وليس من الغريب أن يكون هذا الموضوع عنصراً مشتركاً في كل الفنون ما عدا الرسم، إذ نجده في السينما بشكل أكثر وضوحاً وفي القصة ظاهراً في الحكاية وفي الشعر ظاهراً في اللفظ مشكلاً للصورة. تحدثت عن المفارقة بين «الزحام» و»الفراغ ـ أي لا أحد فيه» وكان المفارقة هنا تبنى من الثنائية الضدية الزحام/ الفراغ. بل كل ثنائية ضدية يمكن أن نخلق منها مفارقة ولكن بشرط ألا تكون مألوفة عادية، مجانية إلا إذا ارتفعت من مجانيتها إلى إطار من التخيل غير المطروق والمألوف. في ديوان «زحام لا أحد فيه» عالم من المفارقات ولكن هل نجح الشاعر محمد حسن أحمد أن يقود هذا العالم إلى أن يظل حياً، متألقاً، عبر كسر توقعنا بنهايات أو خواتيم نصوصه، أم أن المفارقة لديه ظلت عادية لا وهج فيها. ولكي أتناول بناء المفارقة الفني اعتمد على القصائد القصيرة في الديوان: يقول في قصيدة «عودة»: خرج يوزع أحلامه على المارة عاد بالشتائم، دخن معها سيجارة اللف الأخيرة دخل السرير مات في النص بناء سردي واضح تعلن عنه الأفعال الماضية «خرج، عاد، دخل، مات» وحتى هذه الأفعال لوحدها تشكل نصاً - لاحظ حركتها خارج النص - لكن عندما نقرأ النص بدقة نجد أن لا ترابط بين «الموت» و»الخروج والعودة والسرير» ما هي الفكرة، كيف يمكن تصورها، إلى أي الحدود يمكن للمتلقي أن يحفر في معنى النص أو بنيته العميقة ليصل إلى الرمز فيه أشياء، وجزئيات كثيرة في النص لا ترابط فيها ظاهرياً، يبقى هنا أن المتلقين جميعاً سوف يخلقون تصورات للنص الشعري وهنا سيدخلون في الاختلاف مما ضيع على الشاعر موجهاته للمتلقي كي يقرأ قصيدته بما يريد. لنلحظ قصيدة لأدونيس وكيف يخلق موجهاته بدون إشراك المتلقي في خلق الصورة بل في جعل المتلقي يعيش ما يريده أدونيس من جمالية في البناء التصوري: لثلاث ليالٍ والسماء تمطر حتى كاد وجه البحر أن يتبلل حيث لا متلقي يختلف مع الآخر في تصور الصورة الشعرية التي يبنيها أدونيس بينما يختلف جميع المتلقين في تصور الصورة الشعرية عند محمد حسن أحمد، بل يتصادمون في التأويل. في قصيدة «وصية»: بلهجة أخرى حين تحملون جثتي اقفلوا باب الغرفة جيداً. لماذا بلهجة أخرى أولاً ولماذا يقفلون باب الغرفة.. هل حاول الشاعر أن يبث مقدمات تقود إلى نتائج معاكسة ليخلق من خلالها مفارقته الشعرية، وكأن الشاعر هنا اكتفى بالسرد فقط دون أن يخلق فيه تناقضاً دون أن يحول هذا السرد إلى بنية صورية تتضاد فيها الأحداث. أقول إن المفارقة في التضاد هي نتاج المفارقة في اللغة. محمد حسن أحمد شاعر يبرع في السرد ويلتقط عوالم مهملة ويسجلها بأناقة عالية إلا أنه لا يخلق تناقضاتها بعكس ذلك كله نراه في قصيدته الطويلة «زحام لا أحد فيه» التي يهديها إلى الشاعر هاشم المعلم حيث يقول فيه «إلى المدفون في الهواء» وهي هنا تجسيد للمفارقة أي أن ما هو واقعي الدفن/ أرضاً يتحول إلى تخيلي الدفن/ الهواء مما يكسب شعريته في أخيلته. ولكن حين نقرأ: إنها تسكن ذاكرتي الدور الخامس، شقة رقم 204 لم أكن أعلم قبل ذلك أن رأسي بناية مكتظة بالسكان نرى عدولاً من ضمير الغائب، «انها تسكن» إلى ضمير المتكلم «لم أكن أعلم» و»أن رأسي» أولاً ثم نرى في هذا التحول تحولاً «آخر بين سرد واقعي لا شعرية فيه» «انها تسكن ذاكرتي» وهي «في الدور الخامس» في «شقة رقم 204»، إلى تخيل يحمل شعريته «رأسي بناية مكتظة بالسكان» فمن غير الممكن أن نصدق حقيقة أن يكون رأسه بناية مكتظة بالسكان ولكن من الممكن تخيل ذلك وهذا ما يكرس شعرية النص.. ولو بقي النص الشعري على واقعيته لما صار نصاً شعرياً. ولأننا انتقينا نماذج من شعر محمد حسن أحمد لا تبدو فيها الصور متجلية وواضحة إلى حد اتفاق المتلقين عليها نأخذ نماذج أخرى تدلل على وضوح الرؤية فيها وحسن المفارقة الجاذب: 1 أصابعها مستمرة في العزف بعد أن حولت قلبي إلى بيانو *** 2 كلهــــم يريــدون الجنـــة وأنـا ذاهـــب إلـى قلبــك *** في المقطع الأول تقودنا واقعية الصورة إلى لا شعرية النص في السطر الأول بينما وارتباطاً بها نرى السطر الثاني يحفل بشعرية واضحة حيث القلب المتحول إلى بيانو، ولكن لنسأل ما هي عناصر هذا النص الشعري.. أقول هي تجاذب المعادلتين الأصابع/ البيانو.. والعزف/ القلب، حيث تقابل الأصابع من الأولى العزف في الثانية وتقابل البيانو من الأولى القلب في الثانية وكانت أمام معادلتين أخريين هما الأصابع/ العزف، والبيانو/ القلب وهذا ما نجده في النص الشعري. في المقطع الثاني نجد الذهاب هو القاسم المشترك في الصورة بمجملها ففي الوقت الذي يذهب فيه الجميع إلى الجنة هو ذاهب إلى ما يعادلها قلب حبيبته. هذا التناغم المتعادل الجنة/ قلب الحبيبة يحمل تناقضاً وتضاداً مما يولد المفارقة حيث الجنة الناقصة لهم والقلب المكتمل له أي أن النقصان هناك يفارق الاكتمال هنا مما يستدعي اختيار الذهاب إلى الاكتمال. أقول تلك هي المفارقة عندما يريد الشاعر أن يتجلى بها لا أن نكتفي بالوصف أو السرد الذي لا يولد الدهشة. تلك هي نظرة عامة على ديوان «زحام لا أحد فيه» للشاعر محمد حسن أحمد الروائي وكاتب السيناريو والذي أسهم في تأسيس مجلة فراديس الإلكترونية والسينمائية وسبق له أن أصدر روايته «للحزن خمسة أصابع».. كاتب وشاعر جاد يبحث عن تأسيس لرؤى خاصة، يقوده الشعر إلى اكتشاف ذاته وتقوده السينما إلى اكتشاف الآخر.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©