الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

مسابقة النرجس

22 ابريل 2009 23:21
يروي السري الرفاء أن أبا محمد المهلبي قال يوما لندمائه: هاتوا أحسن ما رويتم في النرجس، فأخذوا ينشدون أقوال الشعراء ويفاضلون بينها، وأنشد بعضهم قول المعذل: أما ترى الشمس قد لانت عريكتها وقد تورقت الأشجارُ والقصبُ والنرجس الغضُّ قد لاحت مقاطعه كأنهن عيونٌ مالها هدبُ كأنها فضة تعلو زمردةً خضراء يضحك منها ناظرا ذهب فالشاعر قد وضع إطار الصورة قبل أن يرسم منظرها الطبيعى، حيث انكسرت حدة لهب الشمس وأورقت الأشجار ولاحت معالم النرجس، وهنا تجرّه القافية إلى غير ما يود، إلى صورة بشعة، فأن يكون النرجس عيونا فهذا من دارج القول ومطروق التشبيهات، لكن أن تكون هذه العيون بدون أهداب فهي من أقبح الصور مهما تراكمت فيها بعد ذلك نفائس الأحجار من فضة فوق ساق خضراء من زمرد، حتى ولو ضحكت، ومهما أضفى الشاعر عليها من حيوية في ناظرها الذهبي اللامع. ولولا القافية البائية من ناحية، وعدم وجود ما يقابل أهداب العين ورموشها في صورة النرجس من ناحية أخرى لما صدمتنا هذه العيون العمشاء. يأتي بقية الندماء بأبيات شعرية أخرى في وصف النرجس ثم يعقب عليها المهلبي بأبيات أخرى يزعم أنها تفضلها مما ينعش الذاكرة ويدفعها لاستحضار عيون النرجس والشعر، بيد أن مصنف المختارات لا يكتفي بهذه الملاحاة، بل لايسهم بدوره في هذه المنافسة، وربما يحرز قصب السبق فيها، فيورد قطعا تستحق التأمل والتريث، لما تمثله من طبيعة المجتمع العربي في العصر العباسي، خاصة فيما يتعلق بظاهرة تعدد المشارب والمنازع وتجاورها باتساق عجيب، يجمع بين أهل الزهد والمجون في قرن واحد، فهذا اسحق بن محارب يعيد وصف النرجس ليتخذه مثلا على قدرة الخالق سبحانه وتعالى في قوله: تأمل من خلال الشكّ وانظر إلى آثار ما صنع المليك جفوق من لُجَينٍ ناضرات كأن حِدَاتها ذهب سميكُ على قصب الزبرجد مُخبراتٍ بأن الله ليس له شريكُ ولعل مطلع هذه الأبيات من أشد ما يلفت النظر في هذه القطعة المتفلسفة، فالشاعر يدعونا إلى أن نتأمل «من خلال الشك» قبل أن ينتهي إلى أن سحر تركيبة النرجس يخبرنا بحقيقة التوحيد إذ يشرف بنا على جمال الطبيعة وفتنتها. ونرجسٍ ذي نظرٍ ما غضّه حثّ على اللهو الفتى وحضّه فت الربيع مسكه ورضّه زبرجد وذهب وفضة فما يحث على التأمل الصوفي لدى الأول يغري بالنظر الثاقب المتمعن الذي لا يُغَض، ويحض الفتى بعنف على اللهو وقد نثر الربيع عطوره وألوانه وبهجته على رقعة الأرض: مخضرَّة، مصفرّة، مبيضّة كأعين دموعها مرفضّة ليست تُرى من جولنا منفضّة مثل نجوم لا ترى منقضّة وعذرة اللهو بها مفتضّة ولعل ما يروعنا من فتنة هذه المقطوعة هو تلك القافية الصعبة الطازجة الغضة، في إحكامها وإتقانها، على عكس ما جرى للشاعر الأول، مما يعطينا نموذجا لتبادل المواقع وتفاوت المستويات في كشف الفن عن مفاتن الجمال في الشعر والطبيعة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©