الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

الشقة الخامسة ( 1 ـ 2 )

الشقة الخامسة ( 1 ـ 2 )
16 أكتوبر 2007 23:30
في هذه المقالة يروي الكاتب حكاية تنقله من شقة إلى أخرى في مدينة أبوظبي: يا ترى ما الذي يبقى من الشقة في ذاكرة من يتركها؟ ما الذي يبقى من داخلها؟ من جدرانها ونوافذها؟ ما الذي يبقى في مراياها·· من الشخص الذي عبر؟ ليس عليَّ بالضرورة أن أكون برداناً كي أنزل من مكتبي وأقف (أو أجلس) في الباحة الخلفية للمجمع الثقافي وأدخن، ومن هناك أنظر إلى نخيل بستان المجمع الداخلي وقد أزيلت تماماً (عندما طالعت جثثها تذكرت الآية: ··· ''كأعجاز نخل خاوية'') ومن بعدها إلى مجموعة من البنايات تظهر من بينها بشكل موارب أول بناية سكنتها عند مجيئي الثاني إلى أبوظبي (للعمل في المجمع) قبل ما يزيد عن خمسة عشر عاماً· كنت زاحفاً من الشارقة ومعي زوجة وابنة كانت وقتها صغيرة جداً (لا تزيد على سنة) واقترح عليّ أحد معارفي أن أسكن في شقته التي يستعد لتركها· الشقة كانت في بناية على شارع يُعتبر امتداداً لشارع خليفة ويُسمى رسمياً بــ ''شارع الاستقلال'' وتقع في نهايته السفارة البريطانية وجمعية الكورنيش التعاونية القديمة· ماذا أتذكر الآن عن تلك الشقة؟ أكاد لا أتذكر شيئاً، تصادفني أحياناً صورة فوتوغرافية قديمة لابنتي وهج وهي تحبو في الشرفة· هذا كل شيء· يا ترى لم لا أتذكر شيئاً عن تلك الشقة؟ أتساءل: لربما كنت حينها في غيبوبة في حياة تشبه الغيبوبة· لكن هذا التفسير وحده لا يكفي ولن يكون جواباً ناجعاً، كما يقولون، عن سؤالي· أيضاً وقتها كنت خائفاً جداً، بل كنت أخاف من كل شيء ويملأ الخوف كل تكويني ··· ولكن أيضاً هل هذا الجواب يكفي؟ بعد هذه الشقة الأولى التي سكنتها لسنتين أو ثلاث، انتقلت إلى مجمع الشيخ خليفة الذي يقع خلف جمعية النادي السياحي التعاونية (كذلك) وكانت تلك كأنها شقة في حي· وأقصد بأنه في تلك الشقة كان أحدهم يطرق الباب كي يدعوك إلى الصلاة (وبالتالي إلى محاضرة) في مسجد المبنى· المسجد في الطابق الأول وأمامه حديقة مسكينة يلعب فيها الصغار الكرة أو يدورون على الدراجات في العصريات، و''الشغالات'' اللواتي ينزلن مع الصغار إلى الحديقة فيجتمعن للثرثرة حسب الجنسيات تاركات الأطفال الرضع يسبحون في الرّمل· لكن في ذلك (الحي) الشقة لم أتعرف إلا على جار واحد·· الصعوبة هذه لاحظتها من قبل، إذ من الصعب أن يكون لك جيران في مثل هذه الشقق، فإذا ما عدنا إلى تلك الصورة الفوتوغرافية من الشقة، والوحيدة التي ما زالت معي، والتي كانت فيها ابنتي وهج تحبو في الشرفة· إذا ما عدنا إلى تلك الصورة وتخيلنا وهج تحبو من الشرفة إلى الباب (الذي تركته العاملة في المنزل مفتوحاً لهذا السبب أو ذاك) لتخرج وتتعرف على الممر كما حدث فعلاً ذات يوم· وكان أبناء وبنات العائلات الساكنة في ذلك الطابق يلعبون الكرة أو يمتطون الدرّاجات في ذلك الممر، وعندما أخرجت وهج رأسها الصغير من الباب تصايحت عليهم الأمهات من الداخل فتركوا دراجاتهم وكراتهم وفرّوا هاربين، وكأنما أطل عليهم الوحش· أما عن الجار الذي تعرفت عليه في الشقة (الحي) فقد كان يسكن في الشقة التي تحاذينا تماماً، وكان من أبوظبي ومتزوجا بلبنانية، وعلى ما يبدو فإنه وزوجته كان يحسان بأنهما منفيان لأن العائلة - كما يحبذ أن يروي - لم توافق على هذا الزواج· وهذا، على الأرجح، ما جمع بيننا، فنحن الآخر - أي أنا وزوجتي - وافدان من خورفكان· لكن ورغم غياب الجيران فإن في تلك الشقة شيء من الحي فعلاً· أو من الصندوق الذي يعيش في داخل صندوق· فبعد طابق ''الحديقة'' بامكانك أن تنزل إلى الشارع إما بدرجين أحدهما للصعود وآخر للنزول (جربت ذلك ولكن في الأخير عدت لما كنت مقتنعاً به سلفاً وهو أن الدرج الواحد يصلح للصعود والهبوط معاً)، أو عن طريق السيارات· وبامكان السيارات أن تنزل ركابها في ذلك المجمع على منصة، كما بإمكان سكان البناية، أو بمعنى أصح مجموعة البنايات،- تذكر غاستون باشلار- التدحرج نزولاً وصعوداً على هذا الطريق كما لو أنهم يتسلقون جبلاً أو ينزلون من بين أشجار الدلفي على الصخور إلى قعر الوادي· قعر الوادي سيكون الشارع المسفلت والرابط بين البحرية والإشارة الضوئية التي تسبق دوّار ''المريديان''· ثم ومن هذا الشارع المسفلت ثمة طريقان آخران إلى شقق ''المجمع''· الأول من جهة ''البحرية'' والثاني من جهة ''الجمعية''· فالذي من جهة ''الجمعية'' قادني إلى احتساء الفراغ في فندق ''الدانة'' المجاور، وعرفني على حديقة ''المريديان'' وكنت عندما أعبره إلى شقتي التي تقع في الركن الأقصى، أدخل في كراج السيارات وهو نفق طويل وعريض تملأ اسقفه أنابيب التكييف المتشابكة (أحيانا كان يخيل لي بأنه مصنع نووي) ويتناثر في قاعته الفسيحة عدد لا يحصى من الأعمدة والسيارات المتباينة الطرز· وكثيراً ما كنت أحس وأنا عائد في أواخر الليل إلى البيت وأمشي تحت مثل هذا السقف بأنني من أفراد ''الكومبارس'' في فيلم شارلي شابلن ''الأزمنة الحديثة'' وانني ماض كي أكون أو أتحول إلى لحم مفروم· وكانت تتوزع على جانبي تلك القاعة ''النووية'' مكاتب الإدارة· أجل الإدارة، فلهذا المجمع إدارة، إنه ليس شققاً فحسب وانما مؤسسة بكل ما في هذا المصطلح من معنى، وان تكن على الطريقة الشرقية، وكثيراً ما كنت أردد وقتها مازحاً: بانني أعمل في ''مجمع'' وأسكن في ''مجمع''· وتشمل مكاتب الإدارة المسؤولين والنواب والمناوبين ومسؤولي الصيانة والنظافة والحراس، والأمن عال في ذلك المجمع والحمد لله، إذ زرعت كاميرات عند كل مدخل حتى أن المرء يتحرج من احتضان زوجته عند مصائد الرادار تلك، فبالطبع أحد ما قد يراك من علٍ أو من خلف الأشياء والمرئي، ويتلذذ بفشلك أو نجاحك في تحقيق قبلة خاطفة· وغالباً ما كنت أتساءل عما يحرسه هؤلاء· فزائرك، أيا كان مرغوبا فيه أو غير مرغوب، يستطيع اقتحام خلوتك (هذا إذا كان بالامكان أن يكون لديك خلوة· فالخلوة من مزايا الأثرياء) وقتما شاء من الليل أو النهار، وسواء كان امرأة أو رجلاً، مجنوناً أو عميل استخبارات أجنبية· فالأمن إذن ليس من أجل حماية السكان، وانما للاطمئنان على الجدران من الاعتداء الغاشم الذي قد يرتكبه أحد هؤلاء ذات لحظة طائشة· أما الطريق الثاني من جهة ''البحرية'' فأقصر من ناحية البناية التي فيها شقتي· وكان من أكثر ما يميزه ما تصادفه وأنت تعبر هذا المسلك وجود حارسين ملفتين (من جملة حراس): الأول - مليباري من كيرلا، عاش أكثر من عشرين سنة في الإمارات متنقلاً بين وظائف مختلفة، وبلغت به معرفته ''المعمقة في المكان'' (كما تقول الصحف الثقافية هذه الأيام) إلى الاعجاب الشديد بأغاني الأم علاية، وحفظ بعضها· الحارس الثاني اسكندراني ضخم الجثة ودود· وعندما تراه تحس بأنه سمكة طفلة أخرجت من بحرها وألقيت في هذا المستنقع· الحارس الأول ارتاب بي وارتبت به، لا أعرف، المهم لم تتجاوز علاقتنا السلام والسؤال عن الأخبار والعلوم وتذكر هذه الأغنية أو تلك وفي كثير من الأحيان دفع أتاوات عند الدخول أو الخروج· وكان هذا الحارس يزرع أمام غرفته الصغيرة المطلة على الشارع المسفلت عدداً غير قليل من النباتات المنزلية، وكان يهتم بها اهتماماً شديداً، وبرقة وحنان ملفتين· أما الاسكندراني فكان يصعد معي أو إلي في الشقة، ونجلس لكي نتداعى في الحديث· أحدثه عن سيد درويش وكيف مات في الاسكندرية فيهتز طرباً للحظة·· لكن عموم هذا الكلام لا يُطربه· انه يريد أن يتحدث عن المال مثلاً·· عن النساء·· ورغم أنني أدرك ذلك، إلا أنني اتبع الطرق المضادة كما هي عادتي، فأكلمه عن العمل الرائع الذي كتبه داريل في الرباعية عن الاسكندرية·· وكنت قد قرأت رباعية داريل في تلك الأيام، وكنت معجباً خاصة بشخصية ''جوستين''، وأروي له اعجابي الشديد هذا، كما عن بحثي عمن يشبهها أو قريناتها في كل مكان من أبوظبي· كما وكثيراً ما أحدثه عن اسكندراني آخر هو قسطنين كافافي· وانشد له في كل مرة يزورني· وأحياناً عدة مرات في الزيارة الواحدة، المقطع الذي يقول فيه كافافي: ''··· وكما ضيعت حياتك في هذه الزاوية الصغيرة فهي خراب أنى ذهبت''· أتكلم مع الحارس الاسكندراني عن كل هذا، فيفكر لربما بأنني مغفل، فالناس فيما حولنا تسارع لفتح بقالات ودكاكين خياطة، وترفع وسائد نومها بكتل من النقود، أما هذا ''المواطن'' المغفل فمشغول بامرأة تعيش في الاسكندرية، الاسكندرية المليئة بالسائحات الاجنبيات، كما كان يردد صديقي الحارس الطفل الاسكندراني وقتها، ومن ثم يسألني: - في أي قصر يسكن صديقك الشاعر اليوناني، وإذا ما كنت أعرف رقم هاتفه· ahmad thani44@hotmail.com
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©