الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

أستونيا··· جدل التاريخ وراء المستقبل

أستونيا··· جدل التاريخ وراء المستقبل
18 أكتوبر 2007 02:06
من الخارج لا يبدو شكل مبنى شركة ''سكايب'' -تعتبر من أكبر شركات خدمات الهاتف والإنترنت- في ''تالين'' عاصمة استونيا مختلفا كثيرا عن شكل غيره من مباني الشركات، سواء تلك التي كانت موجودة إبان الحقبة السوفييتية أو حتى تلك التي بُنيت بعدها، هذا من الخارج· أما إذا ما دلف المرء إلى داخل المبنى فإن أول ما سيلاحظه أن طراز مكاتبه متأثر للغاية بطراز المكاتب في كاليفورنيا الشمالية سواء من ناحية الأجهزة التقنية المتطورة، أو من ناحية المساحات المفتوحة، أو من ناحية وجود حمام سباحة وصالة ساونا داخل المبنى أو البنطلون الجينز الأزرق الذي كان يرتديه المتحدث الرسمي باسم الشركة الذي كان مشغولا جدا بحقيقة أن شركة''إي باي'' التي اشترت سكايب عام 2005 بمبلغ 2,6 مليار دولار قد اعترفت مؤخرا بأنها قد دفعت مبلغا أكبر من اللازم بكثير لشراء الشركة· على الرغم من طموح استونيا وتلهفها على اللحاق بالمستقبل فإن مبنى ''سكايب''- وهنا المفارقة- يبدو للغرباء وكأنه مربوط بالماضي، هذا الوضع ليس في أستونيا فقط وإنما نجد شبيها له في كافة دول أوروبا الوسطى التي كانت جزءا من الاتحاد السوفييتي السابق، حيث يسيطر الجدل الذي يدور حول التاريخ الآن على الساحة السياسية في تلك البلدان· فالتاريخ يهيمن مثلا على علاقة أستونيا بروسيا حيث اندلع الخلاف بين الدولتين الجارتين حول حقيقة ما إذا كان تدخل الجيش الأحمر عام 1945 تحريرا لأستونيا من النازي كما يصر الروس، أم أنه كان بداية احتلال سوفييتي دموي لهذا البلد تم خلاله ترحيل قرابة 10 في المائة من إجمالي سكان الدولة إلى معسكرات الاعتقال والمنافي كما يصر على ذلك معظم الاستونيين· هذا الخلاف ليس نظريا فقط وإنما يمتد إلى الواقع حيث نتج عنه اضطرابات في كل من ''تالين'' و''موسكو'' وإلى موجة من الهجمات الإليكترونية على شبكة الإنترنت على حكومة أستونيا ومؤسساتها الاقتصادية التي شنها الروس في الربيع الماضي· والمجريون أيضا أوشكوا على التشاجر مع بعضهم بعضا، حول المغزى الحالي لثورتهم المضادة للشيوعية عام ،1956 ففي مرحلة معينة من مراحل الاحتفال بالذكرى الخمسين لمرور تلك الثورة، استخدمت قوات مكافحة الشغب المجرية القنابل المسيلة للدموع ضد المتظاهرين بعد أن كادت تلك الاحتفالات تخرج عن نطاق السيطرة· في أوكرانيا اتخذ الجدل الذي احتدم حول ما إذا كان يجب تصنيف المجاعة التي حلت بذلك البلد عامي 1931-1932 على أنها ''إبادة جماعية'' منحى سياسيا عندما أدلى كل حزب من الأحزاب السياسية بدلوه حول هذا الموضوع، أما في بولندا فيتزاحم الجمهور في الوقت الراهن على أبواب دور السينما التي تعرض فيلما يصور المذبحة التي ارتكبها السوفييت ضد 20 ألفا من الضباط البولنديين في غابة ''كاتين'' وقد انتقل الجدل الدائر حول الفيلم إلى ساحة السياسة عندما اتهم مخرجه بعض السياسيين باستغلال قصة غابة ''كاتين'' لأهداف انتخابية· وفي سائر دول وسط أوروبا صدرت في الآونة الأخيرة كتب تدور حول الحرب، وحول الاحتلال السوفييتي، وحول المقاومة، كما صدرت في روسيا ذاتها كتب تتحدث عن تلك الفترة ولكنها كانت تحمل عناوين مختلفة مثل'' ستالين صانع النصر العظيم'' على سبيل المثال· وفي واشنطن ولندن قد نجد من يصف مثل تلك المناقشات والجدل التاريخي بأنه يمثل ارتدادا للوراء، وأنه يعبر عن شكوك ومخاوف مرضية، وأنه لن يعالج المظالم التاريخية سواء في المجر أو أوكرانيا أو أستونيا أو بولندا، وأنه من الأفضل لتلك الدول أن تعمل على تنمية العلاقات الاقتصادية فيما بينها· وقد أخبرني سياسي أستوني بأن أحد زملائه من الساسة الألمان قد نصحه بأن ينسى التاريخ، ويتحرك قدما للأمام قائلا له ''إنكم تضيعون الوقت''· ولكن ذلك السياسي الألماني نسي أن أحدا لم يطلب من الألمان أن ينسوا التاريخ وأن يتحركوا قدما إلى الأمام·· هل فعل أحد ذلك؟ ما على المرء إلا أن يطل من نافذة مبنى ''سكايب'' كي يرى المباني المتداعية العائدة للحقبة السوفييتية، وكي يدرك أن ظاهرة التقدم الاقتصادي والتأمل التاريخي يعيشان جنبا إلى جنب في ذلك البلد وغيره من بلدان المنطقة وأن تلك البلدان تسعى إلى التقدم الاقتصادي، وتسعى في نفس الوقت إلى أن تخبر العالم عن ماضيها حتى تصل إلى نقطة تتصالح فيها مع هذا الماضي· الشيء الذي لا شك فيه أن قصص النجاح الاقتصادي لجمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق تطرح تحديا أيديولوجيا أمام حكومة روسيا كذلك، خصوصا بعد أن التحقت أستونيا وجيرانها بالمؤسسات الغربية ووسعت من نطاق تجارتها مع العالم الخارجي، في حين اختارت هي- روسيا- طريق المواجهة مع الغرب، كما اختارت النموذج الاقتصادي القائم على النفط بدلا من الرأسمالية الحقيقية· ولذلك فإنه يمكن النظر إلى الجدل التاريخي المحتدم في تلك الدول على أنه جدل حول تعريف الماضي وحول النموذج الذي سيسود في المستقبل، هل هو نموذج التقدم الاقتصادي القائم على النفط كما في روسيا، أم إنه نموذج سكايب في أستونيا؟ أنا شخصيا اعتقد أن نموذج سكايب هو الذي سيسود حتى لو كانت الشركة لا تساوي تلك المليارات التي دفعت فيها· كاتبة ومحللة سياسية أميركية ينشر بترتيب خاص مع خدمة لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©