الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

الشقة الخامسة ( 2 ـ 3 )

الشقة الخامسة ( 2 ـ 3 )
18 أكتوبر 2007 02:08
في هذه المقالة يروي الكاتب حكاية تنقله من شقة إلى أخرى في مدينة أبوظبي: يا ترى ما الذي يبقى من الشقة في ذاكرة من يتركها ؟ ما الذي يبقى من داخلها ؟ من جدرانها ونوافذها؟ ما الذي يبقى في مراياها من الشخص الذي عبر؟ من عوالم تلك الشقة أو الحي أو ''المجمع''، أو من العوالم التي وقعت في مداراتها، تلك المناقشات المستعرة في حديقة فندق ''المريديان'' وصالاته بين الربع الذين كنت أقضي معهم ساعات طويلة· مناقشات وذكريات، صدامات واحباطات، بهجات كقوس قزح ودموع تملأ الكؤوس، عوالم وحيوات ما كان يحدث هناك، ولكتابته بتجلياته المعرفية والنفسية يحتاج إلى مجرى عميق ليس موقعه هنا· ثُمَّ بضعة الأشجار التي تقف أمام ذلك الفندق والتي كنت أظنها غابة حين أخرج مع تشقق الليل متجهاً إلى البيت، وأضيع على العشب بين تلك الأشجار لفترة من الروح· وبعد أن استيقظ من الغياب أواصل عبور الطريق ماراً على علب القمامة خلف الجمعية والمملوءة حتى آخرها بكل ما لذ وطاب بينما تتقافز القطط منها حين أمر ضامرة فأتساءل: لم القطط جائعة وسط هذا الخير العميم؟ لاحقاً تفرقت القطط وتلك الصحبة الضاجة وتناثرت كالرّمل في الصحراء، وأنا وقعت في مقهى "trap"· أيضاً شيئاً فشيئاً سكن في ذلك ''المجمع'' مجموعة من الصحفيين والمثقفين إلا أنه لا يمكن القول بأنهم جيران يبعثون على السرور، كما وحدثت في تلك الشقة أحداث مبهجة وأخرى حزينة، طلاقي من زوجتي الأولى، واستلقائي وحيداً على الكنبة حتى تحولت الكنبة إلى بئر· كل هذا وغيره حدث في تلك الشقة وحولها، وكثيراً ما تراودني ذكريات من وعن تلك الفترة التي بإمكاني القول إنها مملوءة تماماً وفارغة معاً، لكني بالمقابل لا أتذكر شيئاً عن الشقة، عن منزل الشقة، عن زواياها، عن نوافذها، عن ممراتها· الصور الفوتوغرافية من تلك الشقة أكثر قليلاً من تلك الملتقطة في الشقة الأولى، وأغلب هذه الصور لابنتي لوهج، منها صورتان تجمع كلاهما بيني وبينها ونحن نتصفح دفتراً مدرسياً بينما تعلونا ستارة كالحة· ولقد كبرت وهج قليلاً في تلك الشقة، وكان من أكثر الأحداث أهمية حين طلبت مني طلباً بسيطاً وطفولياً وعادياً بأن أشتري لها زرافة· قلت لها لا بأس سنشتريها، لكن كيف؟ أين سنضعها؟ هل سنشتريها ونتركها عند جدتها في حوش البيت بخورفكان ؟· قالت: لا· قلت: أين نضعها؟· قالت: هنا في الشقة، قلت: كيف؟، الشقة يا حبيبتي لا تقع على الأرض ورقبة الزرافة طويلة، قالت: نحفر لرقبتها فتحة في السقف، قلت: هل تعلمين بأنه في هذه الحالة سيكون رأس الزرافة عند الجيران وبقية جسدها هنا، في هذه الشقة، قالت: فليكن، أنا أريد أن تشتري لي زرافة· لم أستطع تلبية رغبة وهج تلك، وانتقلت من شقة ''المجمع'' إلى شقة لطيفة أمام حديقة العاصمة - أو هكذا تسمى - في شارع خليفة، وكانت تظهر من زوايا في نوافذها شرائح من البحر· شقة قديمة كانت، لكنها من أفضل الشقق التي بالإمكان أن تسكنها في أبوظبي وقتئذ، غرف واسعة، ممرات أقرب إلى منازل خلق الله منها إلى الطرق الضيقة في المنازل المجسمة للأطفال، صالة حلوة تتسع بطمأنينة بين ذلك المستطيل المعني جيداً بألوان حيطانه ونوافذه، ومواقع النجوم المعلقة في سقفه· خلف تلك الشقة ـ بناية تلك الشقة ـ وكما أشرت من قبل، تتمشى ''حديقة العاصمة'' وهي من أجمل الحدائق في أبوظبي ومتسعة، إلا أنها مسورة - وفي رأيي الشخصي وإذا ما سمح لي - بطريقة مستفزة، وبطريقة تكاد تهلكها وتخفيها· وكثيراً ما كنت أفضل المشي في تلك الحديقة، أو الجلوس في الأيام الأقل حرارة، وخاصة بعد الإفطار في رمضان، بمقهاها الذي يحمل اسماً شبيهاً باسم: ''الأقزام السبعة''، لكن ولأقوم بهذا لم يكن بامكاني النزول من الشقة وعبور الشارع والدخول إلى الحديقة مباشرة· كان علي الاستدارة في لفة طويلة وعريضة ومليئة بلافتات: ''عمال يشتغلون'' كي أدخل إلى هذه الحديقة من جهة شارع حمدان، والجلوس في المقهى، ذلك الجلوس الذي لا يحتاج إلى ضريبة· الذي يحتاج إلى ضريبة هو دخولك إلى الحديقة أساساً، إذ عليك وبمجرد ما تعبر بابها الوقوف أمام عامل البلدية الناعس غالباً في أجواء الهدوء المفترض في كل حديقة لكي تدفع درهماً لا غير، وما الأسوار الشديدة حول الحديقة، على الأرجح، إلا من أجل هذا الدرهم· (···) وكما تلاحظون طبعاً فإنني من أكبر الجهلة في الاقتصاد وشؤون البلديات· وكنت أحب في تلك الحديقة نوافير وأشجارا وارفة وطرقا تتلوى بين الأغصان، ولاحقاً كنت أزورها أنا وأطفالي من زواجي الثاني مرة في الأسبوع على الأقل· أجلس في المقهى أشرب ''الكشري''، ذلك الشاي الصعيدي المكثف، والذي أفضله مُعشقاً بأغصان خضراء جداً من النعناع، بينما طفلاي برفقة عاملة المنزل يلعبان، رب بيت ممتاز جداً، وكان ذلك يشعرني بالرضا، خاصة في تلك الحديقة· في ''شقة المجمع''، وخاصة بعد الطلاق من زواجي الأول كنت قليلاً ما أجلس في الشقة، أو قليلاً ما كنت أجلس وحدي، كنت كمن يهرب من الوحدة· مَن توقظ الوحدة في داخله الوحوش والقوارض، وبالرغم من ذلك لم أكن حين أخرج أسيح في الأرض وأذهب إلى أماكن كثيرة، كنت أذهب دوماً إلى مكان أو مكانين على الأغلب· أجلس في ذلك المكان لساعات وساعات حتى يكاد الجلوس يتعتعني فأقوم وأخرج وأعود إلى تلك الشقة· فيما عدا الشهور الأخيرة التي قضيتها في تلك الشقة، حيث بدأت العمل على الكتاب التوثيقي عن ابن ظاهر، وكنت أعمل بانهماك شديد ولساعات طويلة وكأنني مدمن كمبيوتر أو رياضيات، فيما عدا ذلك فإنني لم أكن أتحمل الحياة مستيقظاً ووحيداً في تلك الشقة· في شقة ''خليفة'' اختلف الأمر، لا أدري هل قليلاً أم كثيراً، أم أن ما أطلق عليه ''أمر'' ها هنا كان قد خلق وتربى وكبر في الظل من نفسي، في تلك الانحاء التي لا يستطيع العقل، التفكير، التقاط إشارتها بسهولة، وعن سابق اصرار· في شقة ''خليفة'' أحببت أن أجلس في تلك الشقة، كما أحببت أن أخرج من تلك الشقة، كنت أخرج وأمشي (وقتها ومنذ زمن قررت ترك استعمال السيارة) في شوارع المدينة، كنت اكتشف أبوظبي تلك المدينة التي لطالما مشيت في شوارعها أثناء زيارتي (أو هروبي) الأولى، لم يعد هنالك شيء من معمار أو شوارع يذكرني بتلك الزيارة فيما عدا شارعي المطار القديم والجديد، والبنايات البيضاء في مطلع شارع المطار الجديد، ومبني جريدة الفجر والوحدة، هذه المعالم وحدها هي ما بقيت من أبوظبي التي عشتها أوائل الثمانينات· الآن أمشي في الشوارع، على الشوارع تظهر وتختفي بنايات شاهقة، لو لم تمر لمدة شهر قد لا تعثر على محل ما دخلت إليه، لقد طار وثم جديد يعمل عليه الآن (···) أعود إلى الشقة شقتي الحميمة جلوسي في شقة ''خليفة'' فتح قلبي لم يكن مغلقاً كلياً كانت على مدخله أشواك، وقد جاء الوقت كي تمطر السحب في المرايا ويجري الماء في شرايين الخشب· كانت تجيء هناك في شقة ''المجمع'' لم تكن تجيء فحسب، بل وتقيم أحياناً في قلبي، في شقة ''خليفة'' كان قلبي المرعي، وها هي الشمس تسبح من جديد في قعر الكأس، ويتنفس البحر في ضجر النوافذ· ها هي تقودني من ورقة إلى ورقة جامعاً رملا خارجيا في قناني الوقت، متفرقاً بسعادة كالجزر في المحيط· ها نحن نجلس والكأس، هي معي تنفخ حبوب الرمان، هي معي وتنجب ما لم يكتب في(···)· هي معي ولا تعرف أن ثم جغرافيا للكلام· هي معي وبهذا النشيد، أو بما يقاربه ودعت شقة ''خليفة'' وانتقلت إلى الشقة الرابعة، الانتقال هنا أشبه ما يكون بتغيير الحذاء· وبالرغم من كل تلك الحياة في شقة ''خليفة'' لم يبق في ذاكرتي من غرفها وجدرانها إلا ''أطياف'' كونكريت، بالرغم من حنانها عليّ، من احتوائها لي، من القيح الذي تحول على كنباتها إلى موج، وفيما عدا صور فوتوغرافية أكثر قليلاً من تلك التي احتفظ بها من الشقتين السابقتين، فيما عدا ذلك فإن شقة ''خليفة'' قد هرولت للسقوط في اخدود النسيان· في اخدود النسيان سقطت كذلك الشقة الرابعة وكانت قد زارتني صديقة صحفية في ''شقة خليفة''، ومن ضمن حوار طويل قلت لها: ''لقد شققتني الشقق''، تشبه هذه الجملة جملة أخرى كتبتها: ''حين تحين الحانة من لي''، ليس الجناس ما يجعل لمثل هذه الجمل معنى في داخلي· وانما فرصة الوجود· mad_thani44@hotmail.com
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©