الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

لست هنا·· سينما تجريدية عن أسطورة الغناء بوب ديلان

لست هنا·· سينما تجريدية عن أسطورة الغناء بوب ديلان
18 أكتوبر 2007 03:18
ما الذي يمكن قوله عن فيلم (لست هنا) ، إنه خيال محض وعمل تركيبي أشبه بقصيدة سريالية باذخة، ملامح سينمائية تذكرك بفيلم (ذا دورز)، (الأبواب) لأوليفر ستون عن حياة المطرب الانتحاري جيم موريسون، أو الفيلم التحريضي المدوّخ (الجدار) للمخرج آلان باركر،ولكن (لست هنا) يقيم في المنطقة النخبوية أكثر، إنه يستوحي من الشعر والفلسفة والتشكيل ما يشبه حقلا تجريبيا للفنون الضارية والحيوات المرصودة لوجود ممزق، (لست هنا) سرد مبعثر يقارب بين حياة بوب ديلان الخرافية، وبين التجريب الأدائي الذي يحول مهنة الإخراج لفعل لذّوي وتهكمي في آن، فاللذة التي خبرها المخرج أثناء تنفيذه الفيلم تحولت إلى تقديس هذياني لأيقونة الغناء الشعبي (الفولك ميوزيك) والروك في الستينات وما بعدها (بوب ديلان)، أما التهكم فهو مجيّر ضد الأفلام التقليدية التي تتحول معها الشخصية الملهمة إلى أيقونة فارغة وهشّة ومنزوعة من أي قصد جمالي· (لست هنا) للمخرج الشاعر (تود هاينز) مثال حارق على لا نهائية الفن، إنه قفز فوق ما بعد الحداثة في السينما، ولذلك فهو عمل يرفض الانتماء لتيار أو منهج سينمائي محدد ومكتمل الشروط، إنه فيلم يتجول في حقل من الألغام، ولكن بعدّة واقية ومتينة من الفوضى الخلاّقة، هذا التجوال العبثي يحتمل المشقة كما يحتمل المتعة أيضا، فبوب ديلان يتعدد هنا ويتحول إلى ست شخصيات دفعة واحدة، وكل شخصية هي بمثابة عالم مستقل من الرؤى والتنبؤات والدمارات والأوهام المخلوقة من لحم ودم، فهو صعلوك عندما يتعلق الأمر بالعائلة، وهو زنجي خارج عن القانون عندما يتعلق الأمر بوصايا العنصرية البغيضة، وهو شاعر ورائي عندما يتحول العالم إلى كرة يمكن ركلها في الأزقة المهجورة، وهو أيضا راعي بقر زاهد في الحياة عندما يتحول الماضي إلى ذكريات متبخرة وفقاعات صابون ! حرفية السيناريو يقوم بأداء الشخصيات الست لبوب ديلان في الفيلم : ريتشارد جير، وكيت بلانشيت، وبن ويشاو، وكريستيان بيل، وهيث ليدجر، والممثل الصغير الذي يقوم بدور الزنجي ماركوس فرانكلين· يمزج الفيلم بين الأسلوبين الدرامي والتسجيلي، دون أن ينتمي مباشرة لأفلام (الدوكيودراما) التي شاعت في الآونة الأخيرة، فهو يحيرك بقوامه الإخراجي المترنح بين السيرة الذاتية، وبين تشويه هذه السيرة فنيا من خلال تكنيك ارتجالي وعشوائي، لا يرتهن الفيلم لحرفية السيناريو وصرامته، بل يتعزز الزمن فيه من خلال القطع والعودة والذهاب إلى المستقبل دون التقيد بالتسلسل الاعتيادي والتقليدي للأفلام الشبيهة، يتحول الفيلم من الأبيض والأسود وإلى الألوان الطبيعية ثم إلى أرشيفات الصور القديمة، ومن الغناء إلى السياسة إلى تاريخ الفن والفلسفة، والتجريب في الصورة والتعدد والتوحد، والهذيان اللوني، وكابوس الأشكال والشخصيات، دون شعور مربك بالقطع الحاد للزمن والحالة والمزاج، يسرد الفيلم محطات هامة ومفصلية في حياة ديلان ولا يشعر المشاهد سوى بالنشوة البصرية، وتجميع شخصيات ديلان الممزقة في شريط واحد من الحنين والرجفة· نعثر في الفيلم على أطياف الشاعر الفرنسي الرؤيوي (آرثر رامبو)، الذي عشقه بوب ديلان كثيرا، كما نرى شاعر الطريق المشهور (آلان غينسنبرج) وهو يتجسد في الفيلم بلحيته الكثيفة وملامحه الهيبية في شوارع أمريكا المغسولة بالأيديولوجيا !· موسيقا الروك هذا الطابع النخبوي والتجريبي في الفيلم، لم يلغ المتع البصرية المرافقة له، ولم يقلل من الكثافة الإبداعية المتغلغلة فيه، فشخصية بوب ديلان التي تؤديها الممثلة الرائعة (كيت بلانشيت) يتحول إلى أداء مذهل ولصيق بشخصية ديلان المتمردة والمأهولة بالبارانويا وتضخم الخيال الشخصي، خصوصا بعد تحول ديلان من الموسيقا الشعبية، إلى موسيقا الروك، وعدم انضمامه لحركة المحتجين ضد حرب فيتنام، هذا التحول وضع ديلان في الموقع المعتم والمنبوذ لدى عشاقه وأتباعه ومتذوقيه، وهي الحيرة الذاتية التي دفعت ديلان نحو الإدمان على المخدرات، والبحث عن وسائل تدميرية للهروب من الأرض المحروقة، المليئة بالانتهازيين والموتورين وأهل الصحافة الذين يتقنون صنع المشانق العالية للنجوم !
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©