الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

شمس في القلب

شمس في القلب
13 ابريل 2016 21:41
سعيد الكفراوي طول عمري، أنظر للمكتبة، باعتبارها شفاء للروح، ومساحة من البراح، أقابل فيها أهل الغبطة، والعوامين من أصحاب الكتب الذين أخذوني يوما ناحية الدهشة، وأطلعوني على ميراث الإنسان الباقي! عشت طول عمري أنظر للمكتبة بوجل الخائف، من الخفي، والمجهول، ومن المقدر والمكتوب، ذلك الذي يصادفني بين السطور، على الرغم من أن المكتبة طوال العمر هي الرفيق لزمن القرية، وزمن المدينة. كيف يمكننا انتزاع معارفنا من فوق أرفف تحمل على عاتقها مصائر وحيوات بشر عاشوا، ومضوا حيث وجه الله القدير؟ كان كتاب سيّدنا الملاذ الأول. قبضت على كفك جدة عجوز مثل ضريح، وسحبتك من طوق جلبابك، ورمتك تحت قدمي سيدنا شيخ الكتاب. صرخت مستغيثة: سقانا المر. شيطان وساكن الدار. هو خادمك وحلالك. حفظه المصحف. إن أعلن العصيان أكويه بالحديد والنار. انتبهت لترتيل العيال. فشع النور من مكان لا أعرفه. فارقت زعيق جدتي، وغاب عني وجه الشيخ الكفيف؛ لأنني سقطت بلا إرادة من حلاوة الترتيل، والعيال ينغّمون الحروف وهم يقرأون الآيات بصوت حسن، وكأنني أسمع صوت ينبوع ما يتدفق في رواق المسجد الكبير. ساعتها شع النور بقلبي أكثر وأكثر ورأيت في خطفة وعي أول الطريق. في يوم أرسلني قريبي، مدرس الابتدائي، الأستاذ إبراهيم حبيب، أشتري له الجرائد. وحين عدت ودخلت بيته، ثم إلى حجرة مكتبه لمحت على الحائط رفوفا مثبته وعليها بعض الكتب. كانت المرة الأولى التي أشاهد تلك الكتب. وعندما سألته، نظر ناحيتي وأنا أقف أسفل الرفوف. وقال: دي مكتبه. درت أتأمل كعوب الكتب، وأسحب كتاباً وأقرأ عنوانه. كنت بدأت القراءة. وفك الخط، وأسطر كلمات. مددت يدي وسحبت كتاباً كان ملخصاً لحكايات «ألف ليلة وليله». أخذته من الأستاذ، ومضيت، وعلى النهر جلست لأقرأ الكتاب.. انتشى قلبي بالدهشة، وحلاوة الاكتشاف. وعشت لحظات وقد اختلطت علي الأمور، وركبني ألف عفريت وعفريت وشعرت بمشاعر جديدة لم تنتابني من قبل، وانسحبت روحي مني وتركتني. قصة «بدر وقمر الزمان» رحلات السندباد. الأبواب المغلقة على أسرارها. كنوز تضوي بالمرجان و(اللولي) وحجر الفيروز في حبات مثل عين القط. قصص العشق والموت. والجنيات المحلقة بأجنحة محصنة بالطلاسم والكتابة السرية، وصوت شهرزاد مثل رنين الذهب في ضوء قنديل بنّور أخضر. ألقت بي الليالي إلى برِّ القراءة، وقريتي لا تعرف الكتب. عالم ثقافته تكونت من خطبة الجمعة، ودرس دلائل الخيرات، وتلك الحكايات الشفاهية التي تقصّ على المصاطب في ليالي الحصاد. أخبرني المدرس: إن كنت تحب القراءة فأمامك مكتبة البلدية بالمركز. توجهت إلى المركز - المدينة التي تتبعها القرية - وهناك التقيت بمكتبة البلدية. كانت الثقافة حاضرة في مصر في ذلك الزمان. اهتموا بها، وأقاموا لها مكتبات على الطراز الأوروبي. كان للمعرفة مقام وشيخ وأقطاب، وكان لكل مركز مكتبة. والمكتبة على شارع المدينة الرئيس. مبني على الطراز الباروكي بأعمدة وشرفات ورؤوس من الجص برأس آلهة وقادة، وعلى الواجهة تماثيل واقفة لفلاسفة ومغنيات. دخلت الصالة والغرف مزدحمة بالكتب من الأرض حتى السقف. صور لمصر القديمة والحديثة. أشعار مكتوبة بخط اليد مذهبة ولامعة، مزهوة بقدمها، وصورة في الركن لرفاعة رافع الطهطاوي وطه حسين وعلي مبارك والعقاد وغيرهم. عشت سنواتي الأولى بين حجراتها في ذلك الزمن. أحببت توفيق الحكيم بالبيرية على رأسه، قابضاً عليها بكفه لا أنسى مسرحياته أو حكاياته عن باريس، وروايته المذهلة عودة الروح. تواترت الأسماء طه حسين والعقاد وحسين فوزي ويحيى حقي، ثم نجيب محفوظ فيوسف إدريس، هؤلاء هم المؤسسون العظام الذين قدموا لنا مجلات الكاتب المصري والرسالة والثقافة والهلال وصنوف الأدب والفلسفة والترجمات التي كانت تصل من بيروت حين تعرفنا إلى شكسبير وديكنز وهوغو وأندريه مارلو. ودويستوفسكي وتشيكوف وليو تولستوي. وفوكنر وشتاينبك وهيمنجواي. كان للمكتبة في تلك الأيام عبق يصلني حين أدخلها، والظلال في أخيلة تتبادل الهمس. لم تكن الرائحة رائحة ورق، أو قدم لكنها كانت رائحة بشر قادمين عبر الزمن ليسكنوا هنا. تسكن المكتبات الذاكرة... كلما أوغل بنا الزمن تذكرنا أول الدرج الذي نصعد عليه، حيث مكان الكتب. أصبحت مأوى، والعقل يطرح أول أسئلته، والقلب ينفتح على الدنيا، ويشاهد في الأركان العجوز والبحر وإيفان الرهيب وهاملت، وذلك الكهل يرضع ثدي زوجة ابنه مقاوماً الجوع في رواية شتاينبك. ... نادت القاهرة. ارتحلنا وجدنا الفنون والآداب والسياسة، وصوت محفوظ وإدريس وأول بشاير جيل الستينيات. اشتاقت الروح للرحيل، وبالقلب أسماء: دار الكتب. الهيئة العامة للكتاب. فرانكلين. مكتبات الجامعات. الثقافة الجماهيرية ودور النشر. هاجرت، وكنت أول المهاجرين من رفقة العمر. تحلقت حول نجيب محفوظ مع أول طلائع جيل الستينيات، وانفتحت أمامي أبواب الثقافة على المعرفة والجديد، وصوت الثورة حينئذ ينطلق بشعارات القومية والاشتراكية والعدالة. يمضي العمر، وعبر معتركه تحتل الكتب الذاكرة ورفوف البيت، تنطوي على حياتها الخاصة، وأنت سعيد بما قرأته، وحزين على ما لم تقرأه. رحم الله من أقام البناء، ومن صف الكتب على الرفوف. هؤلاء الذين نوروا أمامي الطريق فبدأت القراءة مثل عطشان لم يعرف الارتواء. أساطير وفنون وأشعار قديمة وحديثة، وشيء ما ينمو بداخلي، بذرة في داخلها شجرة، وأنت سعيد بما تعلمته يؤانسك في الهرم كل من مروا بك، وأنت تعيش في أروقة الكلام تلهب روحك النار المقدسة، ونشوة ابتكار التخييل، والفرح بهؤلاء الذين يسعون على الورق سعي الخلود والاحتدام.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©