الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الفقدان.. لم يترك لي مكتبة

الفقدان.. لم يترك لي مكتبة
13 ابريل 2016 21:41
عبد الرحمن مجيد الربيعي 1 بعضنا يولد فيجد في منزله العائلي مكتبة عامرة هي ثمرة ما جمعه الأب والجد؛ فالكتاب بين أهم ما يتركونه لأولادهم ومن ثمَّ أحفادهم. أما أنا، ففتحت عيني على بيت خال من الكتب إلا القرآن الكريم الملفوف بقماش أخضر وموضوع على رف صغير ثبته الوالد داخل الغرفة الكبيرة التي هي غرفة نوم الأسرة كلها. ذاك القرآن كأنه كان ينتظرني أنا الولد الكبير لأقرأ منه بترتيل كل يوم جمعة عدة سور في انتظار أن أختمه ليهدى إلى من توفاه الله من عشيرتنا، جدي وجدتي وعمي ثم أمي. عدا هذا لم تكن هناك إلا بعض النسخ المستهلكة المرمية من قصص شعبية كانت منتشرة وقتذاك مثل «المياسة والمقداد» و«السندباد البحري» يأتي بها غالباً خال والدتي المجند في إحدى الحاميات البعيدة في شمال العراق، وكان الجنود يتسلون بمثل هذه القصص المعبأة بالخيال الوارف. لكنني عندما دخلت المدرسة الابتدائية وبدأ المعلمون ينتبهون إلى اهتماماتي الأدبية والفنية وعلى رأسهم معلمي علي الشبيبي، وهو أحد المعمّمين الذين نزعوا الجبة والعمامة ليعملوا معلمين في مدارس الحكومة، صارت الجوائز التي أحصل عليها كتباً أدبية، وبذلك تعرفت إلى إحدى فرعونيات نجيب محفوظ وعلى «عصفور من الشّرق» للحكيم وتربية سلامة موسى، وستشكل هذه الكتب نواة مكتبة صغيرة كنت أكدسها في صندوق من الكرتون، وستزداد هذه الكتب بعد تحولي إلى المدرسة الثانوية حيث انفتح أمامي فضاء قرائي كبير وواسع يتمثل في المكتبة العامة في الناصرية، التي لها الفضل الكبير عليّ لأنني قرأت فيها كتباً ما كان لي أن أقرأها لولا هذه المكتبة التي بقيت أشعر بأنني مدين لها في فترات التكوين تلك؛ نظرًا لثراء مخزونها من آلاف العناوين من التراث إلى المعاصرة. 2 شعوري بفضل هذه المكتبة عليّ هو الذي جعلني، عندما قررت مغادرة العراق نهائياً عام 1989، استأجر سيارة حمل كبيرة بعد أن وضعت الكتب أنا وأخي علي، معاق الحرب، في صناديق كارتون لتشق بنا السيارة طريقها نحو الناصرية والى المكتبة العامة، حيث فوجئت مديرتها بهذه الهدية التي وجدتها لا تثمَّن رغم أن المكتبة لم يعد يرتادها إلا عدد قليل من القراء أغلبهم من الطلبة الذين يقرؤون كتبهم المدرسية. 3 عندما كنت طالباً في معهد الفنون الجميلة بدأت باقتناء الكتب خاصة كتب الفن التشكيلي والمسرحيات والروايات والقصص القصيرة رغم أن وجود الكتب في أي بيت يخيف الأسر، إذ إنها قد تضم بعض الكتب الممنوعة، أو إنها كانت مسموحة ثم منعت لسبب قد يكون تافهاً يتعلق بموقف المؤلف من قضية ما وليس من محتوى هذا الكتاب. بعد تخرجي اقتنيت مكتبة خشبية برفوف لأصفّ عليها كتبي وكان النظر إليها، وهي في عرشها ذاك يشكل متعة نادرة لي بها أستكمل متعة قراءتها. وعندما عدت لبغداد ثانية عام 1964 بدأت بتكوين مكتبة جديدة لا سيما أنني قد صرت منخرطًا في عالم الأدب والصحافة وتربطني صداقات متينة بعدد من الأدباء الشباب الذين يشاركوني همومي وهواجسي وطموحاتي. وبما أنني كنت أعيش في غرف العزاب في منطقة «الحيدر خانة» أو في «المشتملات الصّغيرة» المستخرجة من بعض بيوت «الوزيرية»، فإنني خشيت على هذه الكتب، وكنت أبعث بعضاً منها إلى «الناصرية» أو إلى أصدقائي هناك. لكن بعد الاستقرار الأسري وامتلاكي منزلاً خاصاً في بغداد صارت عندي غرفة مكتبة مع طاولة كتابة وتلك كانت أهم مكتبة كونتها، التي ستنتهي هدية إلى المكتبة العامة في الناصرية. أما المراجع التي يحتاج إليها طلبة الدراسات العليا، فقد ذهبنا بها بسيارة أحد أصدقاء العمر د. خالد حبيب الراوي الذي كان رئيساً لقسم الصحافة في كلية الآداب، ودخلنا على الدكتور نوري حمودي القيسي عميد كلّية الآداب ببغداد لنخبره بهديتي، وقد فوجئ بأهمية العناوين وألحّ على تقديم مبلغ مالي مقابلها، فاعتذرت. 4 تلك كانت أهم مكتبة جمعتها وعنيت بها، ولكن انتقالي إلى بيروت عام 1979 جعلني أكوّن مكتبة جديدة لا سيما وأنا في هذا البلد الذي أعده منجم النشر المنفتح والمتفتح، وجمعت عناوين نادرة وأهديت لي عدة كتب بتواقيع مؤلفيها، نجحت في حمل بعضها، وطلبت من صديق ناشر أن يشحن الباقي إلى بغداد لكنه لم يفعل ذلك. هذه الفقدانات المتعددة جعلتني أتبع وسيلة أخرى؛ فالكتب التي تصلني كثيرة، وجلها عليها إهداءات، فقد عرفت طريق المكتبة الوطنية التونسية، وصرت أحول الكتب التي لا أعود إليها بإهداء إلى هذه المكتبة العامرة.. أما التي عليها إهداء، فأضيف إلى إهداء مؤلفها لي جملة «وبدوري أهديه للمكتبة الوطنية التونسية تعميمًا للفائدة». وربما أكون من أكثر الأدباء الذين يهدون لهذه المكتبة من الكتب العربية التي قد لا تصل إلى تونس. ومع هذا، أشعر بأن البيت مهما امتلأ بالأثاث الغالي فانه يبدو عارياً فارغاً إذا لم تزينه رفوف الكتب، هذه الرفوف التي يهددها الفقدان الذي لا بد أن يأتي، كانت مكتبتي البغدادية وفي منزلي بحي الجامعة المكتبة الآمنة الوحيدة التي أمتلئ بالاطمئنان عندما أدخلها فهي تحقق لي معنى الامتلاك. مكتبات تذهب وأخرى تأتي، تركت في بغداد وفي بيت أخي مجموعة كتب لها صلة بي، دراسات ورسائل جامعيّة ومشاريع روايات، وعندما عدت بعد سنوات لم أجد شيئاً منها، كان أولاده قد باعوها. أما الأرشيف الذي يضم قصاصات الجرائد والمجلات والذي وضعته في حقيبة كبيرة فقد انتهى حرقًا بعد أن فتحته زوجته أخي لمعرفة ما به- ظنوا به نقودًا تصوّر! - وبحرقها فقدتُ مئات المقالات والمراسلات. أما الآن فبيتي، رغم سعته، يكتظ بالكتب الموزعة على كل الغرف، في الصالة، وفي غرفة بالمدخل، في غرفة ولدي سومر الذي اكتشفت فيه حب القراءة والمتابعة، وفي غرفة نومي، هناك مكتبة والفائض منها كدسته على لوح عريض فوق الأرض، وهناك مجموعة كتب تشاركني السرير. إنني من جيل الكتاب الورقي، وجود الكتب في بيتي يشعرني بالأمان، حتى رائحة الورق أجدني مدمناً لها. ما زلت أشتري الكتب، وعندما أسافر لا بد أن تمتلئ حقيبتي بالعناوين الجديدة التي آمل أن أقرأها، ومن حسن الحظ أن في بيتي قارئ ذكي هو ولدي سومر الذي تخرج من الجامعة هذا العام.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©