الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

مغامرة الاتساق ومحاولاته

مغامرة الاتساق ومحاولاته
13 ابريل 2016 21:42
إلياس فركوح «في رأيي، إنّ الكلمات على ورقة تجعل الكون متناسقاً». بهذه الجملة المكثفة المقتبسة عن ألبيرتو مانغويل أستهل كتابتي. أستهل ولوجي للمكتبة بأبعادها ومعانيها كافة. بالمباشر منها وبالمَجاز والاستعارة. إنها تعبيرٌ مختصر لا يتوقف عن مَدّي بإيحاءات وتأويلات. انزياحات تبدأ بمجرد ورقة واحدة في كتاب قد لا يلفتنا فيها سوى بضعة سطور، فقرة هنا أو هناك، تركيب لغوي مبثوث يسطع فيضيء لنا حياةً بأكملها. ولكننا، مهما ذهبَت بنا اجتهاداتنا وتفسيراتنا بعيداً عن مقاصد مَن كتبها؛ إلّا أنّ سرها يكمن في أنها «جعلَت الكون متناسقاً» في عيوننا! إذا آمنا بمضمون الجملة إيّاها وصادقنا عليه، فإنما نكون، في الحقيقة، نُقِرّ بانعدام تناسق العالم خارج الكتابة. بهيولته وهلاميته بمعزل عن الكلمات، وانفلاته من قدرة اللغة على «الإحاطة» به و«السيطرة» على تخومه المتحركة. فالعالم، بحسبي، يتخايل على نحو مستمر، بلا توقف، يدخل إلى صوره المختلفة، المتعددة، لكنه سرعان ما يكسر أُطرها جميعاً تاركاً من حوله أمواجاً من الإجابات لم تعد صالحة لتغطّي الأسئلة الجديدة. ورقة في كتاب، فصل في موسوعة، كلمات في قاموس، كتب مصنفة بحسب موضوعاتها،رفوف تتراكب فوق بعضها، تتجاور، تتوازى، تنوء بأحمالها فيصاب خشبها بالانثناء، تسمق إلى السقف وترسخ على الأرض: إنها المكتبة، باختصار.غير أنه اختصار ظالم لأنه ناقص، ومجزوء، وشكليّ، وصُوَري، وبَرّاني. إنها المكتبة كما تبدو بينما تطالعنا ونطالعها، وكما اعتدنا أن نجعل لها مكاناً – وربما أمكنةً - داخل بيوتنا، وكما نحبّها أن تكون كي نخلق اطمئناناً فينا. أهو اطمئنان الحيازة؟ الامتلاك؟ التوفُر على؟ نعم، كلّ هذا، وأكثر:نحن نحتفظ في بيوتنا بأجزاء من العالم، وفصول من تاريخه، على نحو منظَّم وفي غاية الدقة. جزء من العالم وتاريخه قمنا بتنسيق معالمه وفرز مفرداته ليصار لنا، في لحظة مناسبة، إمكانية أن نمد يدنا فنتناول كتاباً محدداً من رفٍ معلوم لنلتقط معرفةً نطلبها. نطلبها لأنها تلزمنا للعثور على «إجابة ما» عن العالم! لكنها خديعة نمارسها على أنفسنا. بعضنا الأغلب من دون وعي، وبعضنا النادر بوعي كامل! نحن نبحث، في حقيقة الأمر، وكما أزعم، عن «إجابةٍ عنا» – لا عن العالم. واحتكاماً لجملة الاستهلال الأولى الخاصة بألبيرتو مانغويل، فإني أراني أتمثّلها على نحو آخر: الكلمات على ورقة تجعل كياني متسقاً! ربما يتأتى اتساقي الذاتي بفعل الكلمات إثر اتساق العالم بعد قراءتي لتلك الكلمات/‏‏ الأوراق/‏‏ الكتب/‏‏ المكتبة.لكنّ الوجه الآخر لمعنى الكلمات، وتأثيرها الفاعل في مسألة الاتساق وتحققه، إنما ينتج عن تحفيزها لي لأن أكتبها أنا أيضاً! فما دمتُ «مستقبلاً» لها في المقام الأوّل، متفاعلاً مع إضاءاتها، فلا بدّ من أن «أتراسل» معها وأحاورها.. فأكتبها، وعلى نحوي الخصوصي. عندها؛ أكون دخلتُ بوعيي وإرادتي مغامرة الاتساق. ومع ذلك؛ يبقى سؤال اتساق العالم من جهة، واتساقي الشخصيّ من جهة أخرى، سؤالاً يرتهن للاحتمالات.. وليس ثمّة من يقين في أيّ إجابة. ولهذا؛ فإنّ الاتساق مغامرة قد يجانبها التوفيق. 2 المكتبة كينونة نصنعها بإرادتنا الحرة، نبتغي منها الجَمْع والتجميع والحِفظ. وكلّما زاد وتراكم عدد ما نجمعه ونحتفظ به من كتب، ومعاجم، وقواميس، ودوريات، ومجلات، تناقصت ثقتنا بمعرفتنا! أيّ معادلة عجيبة هذه! ولربما أبدو متظرفاً (بالظاء) عن عَمْد، أو متطرفاً (بالطاء) في التشبيه، لكن دعوني أقول: إنها المعادلة الخاصة بالرجل في علاقته مع المرأة. إذ كلّما عرفناها – كرجال – زاد جهلنا بها ككيانٍ كُليّ. وإذا كان هناك من معرفة نحوزها عبر علاقتنا بها، فلا تعدو الوقوع على الضعف الكامن فينا! وبالتالي، فإنّ تماثلاً ما ينسج خيوطه بين نتائج علاقتنا بفضائيْ المرأة والمكتبة: كلاهما يكشف عن الناقص فينا كلّما كثرت الدرجات التي نرتقيها للوصول إلى أعلى.. ولا نصل! أهي حالة تستدعي منا الالتفات إلى مسألة الفرق بين «الكم» و«الكيف»؟ ليست المكتبة بكم الذخائر النفيسة التي تحتويها مصطفة فوق رفوفها الأنيقة، بقدر العمق الذي وصل فهمنا إليه من واحدة (واحدة فقط) من تلك الذخائر. وكذلك المرأة: ليست العِبرة في عدد النساء اللاتي عرفنا وأقمنا معهن علاقات متعددة؛ بل في «بلاغة اللغة الكليّة»، عقلاً وروحاً وجسداً، التي تحاورنا من خلالها مع امرأة واحدة. ولا ننسى الغبار. علينا ألا ننسى كم من غبار احتلّ مكتباتنا على مدى الأعوام كنا أزحناه، وكم من غبار جديد عاد لينسلّ متغلغلاً بين صفوف الكتب على أرففها. يزحف في كلّ يوم، ونزيله في كلّ يوم، وفي كلّ يوم يزداد يقيننا في عَبَث هذه العملية. كأنّ هاتفاً هابطاً علينا من سماءٍ غامضة يكرر، وبلا هوادة، نداءً على هيئة نصيحة مفادها: المعرفة الصافية، المُنقاة، خارج مجال الواقع الأرضي الملوث لا مكان لها. أو هي معرفة تشوبها الظنون مثلما يشوب الغبار أوراقنا ويسكن فيها! أوراقنا في كتب قرأناها، وأوراقنا في كتب كتبناها! وفي النهاية: كلّ شيء إلى غبار! أثمّة «حكمة ما» في هذا كلّه؟ 3 أحد وجوه التشابه بين المكتبة والكتابة: الحذف والإضافة. إنّ الخبرة المتحصلة عن عملية الكتابة تفيد بأنّ لا شيء يُكتب هو نصٌّ نهائيّ راسخ. لا فقرة أُنْجِزَت ليست قابلة للتعديل أو الحذف، لا فصول سُطِرَت من قبل ممتنعة عن إعادة النظر واحتمالية الإلغاء والشطب في ما بعد، لا مشهد روائيّ رُسم على نحوٍ لا رجعة عنه، إلخ. كلّ النصوص قيد الكتابة نصوصٌ قيد المراجعة في الوقت نفسه، وأُولى نتائج تلك المراجعة الاقتطاع والإلغاء والاستغناء. وبحسب مقولة محمود درويش: «الكتابةُ فنّ المحو». وإنها المكتبة تخضع لهذه «المصائر» أيضاً، على الأقلّ كما أتعامل معها. عادةً ما يعمد بعض أصحاب المكتبات الخاصة داخل بيوتهم إلى مراكمة ما يستطيعون تحصيله من كتب، بصرف النظر عن أهميتها أو موضوعاتها. وعادةَ ما ينصرف هؤلاء إلى جرد محتوياتها كلّ سنة، مثلاً، ليعرفوا كم أضافوا لـ«ممتلكاتهم»، ليشبعوا جوعهم المزمن ولا يشبعون. لا يشبعون لأنهم، ببساطة الأشياء وطبيعتها، لا يهضمون ما قرؤوا.. إنْ قرؤوا فعلاً. لا يشبعون لأنهم، في حقيقة حالتهم التجميعية هذه، ليسوا سوى «مرضى كتب» لم يحصلوا عليها بهدف تحصيل معرفة محتوياتها؛ بل لإرضاء نقصٍ ما هُم لا يعونه! وبالتالي، فإنهم لا يقرؤون تلك الكتب، إذ لا وقت أصلاً يمكن توفيره مما تبقى من أعمارهم لتصفحها! هؤلاء هم الذين يضيفون، آخذين بعين الاعتبار والجدارة والتميّز «الكمَ» معياراً، لا «الكيف». من جهتي؛ لست من هؤلاء. لستُ ممن تتحقق ذواتهم جرّاء عدد ما تمتلئ بها رفوف مكتباتهم إلى درجة الاكتظاظ ومراكمة الكتب فوق بعضها بعضاً. لستُ ممن يقلقهم «فقر» مكتبتهم النسبيّ بخلوها من كلّ جديد يصدر، وكلّ إصدار يُشْهَر، وكلّ مشهور يُعَمم، وكلّ ما يقع تحت لافتة «أكثر الكتب مبيعاً» – إذ هذه الكتب، بحسب اختباري لها بالإنصات لمن يقبلون عليها، وبالاطلاع على نماذج من سلالتها – هي «أكثر الكتب خِفَّةً»، وأكثرها إضاءة على المستوى المريب للذائقة السائدة! ليس هذا هو السبب الوحيد لعدم «ثراء» مكتبتي؛ فثمّة ما هو أكثر أهمية من هذا بكثير: أوَلسنا، جميعاً، عُرضةً للتغيّر المستمر ما دمنا على قيد العيش، ما يعني أنّ أذواقنا وتقييماتنا في حالة تَبَدُّل دائم؟ وهذا لا بدّ أن ينعكس على طبيعة الكتب التي نختار وننتقي، في كلّ محطّة من المحطّات التي نمرّ بها، فنلتقط كتاباً يناسبها في تلك اللحظة لنضيفه إلى مكتباتنا. غير أنّ حالات التبدّل المشار إليها هنا تستتبعها، بالضرورة والحتم، عملية مراجعة دائمة تؤدي إلى حذف وإلغاء واستغناء عن كتب باتت خارج سياقات مداركنا وأذواقنا. خارج أولوياتنا واهتماماتنا. عندها؛ يكون من الطبيعي التخفيف من أثقالها فوق خشب الرفوف، وإبعادها عنا تماماً. لا نلقي بها في «المهملات». أبداً. فهي، في آخر الأمر وبدايته، تتضمن «معرفة ما» يحتاجها غيرنا ممن ليسوا ما بتنا عليه الآن. هذا الفعل، حسب ما أطلق عليه، هو: التعشيب! تماماً مثلما يقوم البستاني بانتزاع غير المفيد من الأعشاب النابتة في أرجاء الحدائق، ليُبقي مساحة كافية للاستفادة من الأرض بإضافة مزروعات ذات فائدة وجدوى. في كلّ بضعة سنين، تراني أراجع محتويات رفوف مكتبتي، أُنزل عنها ما لم أعد بحاجة إليه (إنْ كنت قرأته أو لم يتح لي الوقت لقراءته)، أجمع أكداساً، أحفظها في أكياس وصناديق كرتونية، وأرسلها «إهداءات» لمكتبات عامة – في حالة افتقاري لأشخاص يرغبون باقتنائها. على هذا النحو تتجدد مكتبتي دون أن تتضخم وتترهل بأوزان زائدة. على هذا النحو يمكن لي الاتساق مع نفسي، حين أقول بأنّ الورقة التي أقرأها استغنت عن كلمات حالت دون رؤيتي للعالم بحسبي. بأنّ الورقة التي أكتبها اكتسبت مساحةً لكلمات تتناسب وعالمي. الناقص فينا ثمة تماثل ما ينسج خيوطه بين نتائج علاقتنا بفضائيْ المرأة والمكتبة: كلاهما يكشف عن الناقص فينا كلّما كثرت الدرجات التي نرتقيها للوصول إلى أعلى.. ولا نصل!
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©