الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

مكتبة مسكونة بالشياطين

مكتبة مسكونة بالشياطين
13 ابريل 2016 21:42
وجدي الأهدل أتذكر أنني في سنواتي الدراسية الثلاث الأولى كنت طالباً غبياً وميئوساً من تعليمه. لم تنجح جحافل الأساتذة في تعليمي القراءة والكتابة. أُفكر الآن بأن السبب قد يعود إلى وفاة أمي وأنا في السادسة من عمري . لم تثر المدرسة عندي أي اهتمام بالعلم. يبدو أنني اتخذت منها موقفاً عدائياً، فأغلقتُ حواسي على نفسي كصَدفة ولم يتسرب إليّ سوى النزر اليسير. في السنة الدراسية الرابعة اكتشفت مكتبة والدي، وانبهرتُ بكتابين من القطع الكبير، ورقهما مصقول، وتتكدس فيهما صور رائعة تخطف الأنفاس. الأول يتكلم عن الاختراعات والاكتشافات بأسلوب علمي مبسط، والثاني يضم معلومات جغرافية عن جميع دول العالم. لم يكونا يشبهان البتة كتبنا المدرسية القبيحة، المنفرة شكلاً، والمكرسة للبلادة في مضمونها أيضاً. فجأة وجدتُ في نفسي دافعاً أصيلاً لتعلم القراءة، وتصالحت مع العلم. ما إن عرفت طريق الكتب حتى امتدت يدي إلى كتب كثيرة، وانكببتُ على النهل منها، فتحسن مستواي الدراسي بصورة ملحوظة. لم يكن ترتيبي الأول، ولكنني صرت في المقدمة بصورة ثابتة حتى تخرجي من الجامعة، ولم أُعانِ بعدها أبداً من خطر الرسوب. وجدتُ كتب التاريخ جذابة، ولم أكن أملّ من مطالعتها، على العكس من كتب التاريخ المدرسية التي كانت تصيبني بالغثيان بمجرد لمسها، والمكتوبة بأسلوب محنط ولغة خشبية. تلذذتُ بقراءة ألف ليلة وليلة وسيرة سيف بن ذي يزن وسيرة عنترة بن شداد وغيرها من القصص العربية القديمة العظيمة، التي كان والدي نفسه مولعاً بها، إلا أنه لم يكن يطيق الأدب الحديث. سوف أُدرك لاحقاً أن مزاجه هذا، قد أثّر على كتاباتي فيما بعد، وبالذات في بداياتي الأدبية. حاول والدي تشجيعي على قراءة الكتب الدينية، ولكنها لم تجد هوىً في نفسي. أتأسف اليوم لأنني لم أتغلب على مخاوفي وأضع قدمي في المكتبات المدرسية الابتدائية والإعدادية والثانوية، بسبب شائعة عن تعرض طالب زميل في فصلي للاغتصاب في المكتبة.. يبدو أننا العرب قوم نمتلك أساليب ماكرة في التخويف من بقاء المرء بمفرده مع الكتب! خسرت مالي وكسبت الرواية طلبتُ من والدي مبلغاً من المال لأبدأ مشروعاً تجارياً فوافق، ووقع اختياري على فتح مكتبة لبيع الكتب والقرطاسية. وبعد مضيّ بضعة أشهر تبين أن الأرباح لا تكاد تذكر، فخابت آمالي التجارية وخسرتُ المال وسنة من عمري، ولكنني ربحتُ التعرف إلى الرواية الأوروبية الحديثة التي أعادت خلقي من جديد. في الجامعة كنت أجد راحتي في مكتبة كلية الآداب، وقضيتُ فيها من الوقت أكثر مما قضيته في قاعات الدراسة. استمر نفوري من العملية التعليمية التي تركز على ملازم رثة، وتتطلب حفظاً ميكانيكياً للمعلومات. أساتذة الجامعة الذين أحتفظ لهم بذكرى طيبة في نفسي، هم أولئك الذين لم يقيدوني بملزمة أو كتاب واحد، وإنما أتاحوا لي الاطلاع على العديد من الكتب والمراجع في مادتهم. وكذلك أولئك الذين كلفوني بكتابة أبحاث تتطلب قراءة كثيفة في موضوع محدد. ومع الأسف كان التكليف بكتابة الأبحاث أمراً نادراً في جامعة صنعاء. والشاهد هنا أن جامعاتنا العربية لا تشجع الطالب على تكوين المادة العلمية بجهده الشخصي، وإنما تقدم له المادة العلمية «على الجاهز» دون أن تتيح له الفرصة للكدح العقلي والحفر المعرفي. في مكتبة كلية الآداب وجدتُ مؤلفات (ديستويفسكي) وأتذكر أنني كنت أُعاني من مشكلة غريبة مع هذا المؤلف.. بعد قراءة عدة صفحات كنت أجد نفسي أرتجف من الانفعال وأُسارع إلى دس كفيّ تحت الطاولة لكيلا يُلاحظ الجالسون بقربي من الطلاب والطالبات ارتجافهما. اضطرني هذا إلى تأجيل قراءته في الأوقات التي تكون فيها المكتبة قليلة الزوار لتجنب الشعور بالحرج. لا أجد تفسيراً مقنعاً، سوى أنني كنت بمجرد أن أحمل كتابه بين يديّ وأفتح صفحاته حتى أحس بحضور غير مادي للشياطين التي أملت على (ديستويفسكي) مؤلفاته. فيما بعد قرأت كتبه في أماكن مختلفة ولم أشعر بشيء.. بدا لي أن الجناح الذي وضعت فيه مجلدات (ديستويفسكي) في مكتبة كلية الآداب بصنعاء قد سكنته الشياطين، ولم يعد بالإمكان تخليصه منها. مكتبات لها فضل شكلت «دار الكتب الوطنية» حدثاً سعيداً في حياتي، واستعرتُ منها كتباً لا تقدر بثمن، فأنا مدين لها بتكويني الثقافي، وبالأخص قراءاتي لعشرات من النصوص المسرحية لكبار كتاب المسرح في العالم. أيضاً وجدتُ كنزاً ثميناً يتمثل في الأعمال الأدبية اليمنية المفقودة في الأسواق، فانكببتُ عليها في قراءة شبه منهجية، وذلك للإلمام بالمشهد الأدبي في اليمن وفهم انشغالاته، واستيعاب ما أنجزه الآباء وأثرهم الفني. هناك مكتبات عامة أخرى ساهمت في تكويني الثقافي، وأدين لها بالفضل العميم، ومنها مكتبة مركز الدراسات والبحوث اليمني، ومكتبة اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين، ومكتبة مؤسسة العفيف الثقافية. مكتبتي الشخصية متواضعة، لا تتجاوز الألف كتاب، والألف الثاني من كتبي ذهب عن طريق الإعارة إلى الأصدقاء ولم تعد، وبعضها تبدد في مراحل مختلفة من حياتي، نتيجة حوادث لا يخلو إنسان منها، فالدهر كالبحر لا يستقر على حالة واحدة. أحياناً أشعر بأنني أفتقد الصحبة الجميلة لكتبي المفضلة التي تركت في نفسي تأثيراً هائلاً، وأحس بالحزن لغيابها من رفوف مكتبتي. أحنُّ إلى إعادة قراءتها وتفحصها من زاوية نظر جديدة، بعد أن تقدمت في العمر، وتعمقت خبرتي في اكتشاف تفاصيل فنية معينة لم تكن تلفت انتباهي في السابق. رواية «الطبل الصفيح» لغونتر غراس أعرتها لكاتب مسرحي قال إنه يود تحويلها إلى عمل درامي يقدم على خشبة المسرح. لا أعرف إن كان قد نجح في القيام بهذه المهمة المستحيلة، إلا أنه بعد ذلك شد الرحال وعاد إلى مسقط رأسه. رواية «من قتل موليرو» لماريو بارغاس يوسا أعرتها لصديق متحمس للأدب الأميركي اللاتيني، فقال إنها لم تعجبه ولذلك لن يعيدها إليّ! الجواب المُعطى من طرفه يؤكد على أنه فعلاً متأثر بتيار الواقعية السحرية! صديق له معزة خاصة في نفسي، أعرته أكثر من عشرين كتاباً، لم يُعد لي سوى واحد منها، وصارحني بأنه يعيده إليّ لأنه لم يعجبه. مكتبة الأسد.. أنقذتني أُتيحت لي الفرصة لزيارة عدد من دول العالم، وكل دولة أصلُ إليها، كنت أحرص على زيارة مكتباتها العامة والخاصة. أتذكر جولاتي في مكتبة الشارقة العملاقة التي بحجم ملعب لكرة القدم، والمكتبة الوطنية الجزائرية ذات الطوابق المتعددة، ومكتبة الأسد بدمشق، ومكتبة الإسكندرية، ومكتبات جامعة ميشغن الأميركية وضياعي في ممراتها اللانهائية. أتذكر أنني في فترة المنفى، عانيتُ من حرارة الصيف في دمشق، فكنت ألوذُ بمكتبة الأسد العامة سحابة نهاري كله مستمتعاً بهواء التكييف البارد وقراءة الكتب المنعشة للعقل والروح. ولم أكن أصبر على قراءة كتاب واحد لساعات طويلة، فكنت أبدأ نهاري بقراءة الفتوحات المكية لابن عربي ساعة أو ساعتين، ثم آخذ كتاباً في الأديان أو الفلسفة، وبعد راحة وجبة الغداء الخفيفة التي أتناولها داخل المكتبة نفسها، كنت أتجه لقراءة رواية أو مجموعة قصصية أو سيرة ذاتية. وفي الساعة الأخيرة قبل موعد إغلاق المكتبة كنت أذهب إلى قسم الدوريات، وأُطالع الجديد من الصحف والمجلات التي وصلت في ذلك اليوم. تلك المكتبة أنقذت حياتي، ولولاها لكنت جننت أو انتحرت. المنفى شديد الوطأة على قلب الإنسان، وقد ساعدتني الكتب على الكف عن رثاء الذات، والتخلص من المشاعر السلبية. ربما هذا هو دور المكتبة في حياتنا، أن تكون ملاذنا من عواصف الحياة وحرّ أحداثها، وأن نجد فيها أماننا النفسي واستقرارنا العقلي، وأن نعثر فيها على دربنا الصحيح في الحياة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©