السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

بيت أرواح مؤلّفيها

بيت أرواح مؤلّفيها
13 ابريل 2016 21:42
محمود الريماوي (1) المكتبة بيتُ أرواحِ مُؤلفيها، الأحياء منهم والراحلون. لا فرق بين كتاب المؤلف الحي وكتاب المؤلف الراحل. كلاهما، كلا الكتابين ينبض بحياة دائمة. (2) ليست المكتبة مقبرة ولا حديقة ولا نهراً ولا مخزناً.. إنها أرواح حية تشعشع. تضطرب وتختنق. تهدأ وتنسرح. تتهادى وتُحلّق. (3) عندما أصادف كتاباً في مكتبة أحدهم لديَ نسخة منه، ابتسم مع نفسي قائلاً: إنه استنساخ أرواح. (4) الكتب تنادي صاحبها، مقتنيها، سواء كان قد قرأها، أم ما زالت تنتظر القراءة. الكتب تناجيه وتتراسل معه وتخطب ودّه. (5) الكتب تصنع صاحبها. بعد الولادة البيولوجية الأولى، يولد مقتني الكتب على دفعات بالتدريج، على أيدي تلك الكتب التي اختارها واختارته. (6) «أحمق من يُعير كتاباً، وأشد حمقاً منه من يعيد كتاباً استعاره»، حسب قول شائع. الطرافة التي ينطوي عليها القول لا تطمس فساده. فمحبة الكتاب تفتح باباً للتشاركية في الاهتمامات ثم للصداقة، لا باباً للخطف والسلب. (7) يفتننا كتاب فنأخذ في الحديث عنه بحماسة، ونسعى بشدّة لدعوة الأصدقاء والمعارف إلى قراءته. قراءة الآخرين تكمل قراءتنا، وتمنحها عمقاً واتساعاً. (8) عرفتُ شاعراً كان يرفض منح كتب مكتبته لأعز أصدقائه وأقربهم إليه. بدلاً من ذلك وأمام إلحاح الصديق الضيف، كان يقوم بإهدائه الكتاب، ثم يسجل عنوان الكتاب ومؤلفه في مذكرة خاصة، لكي يقوم الشاعر بشرائه لنفسه مجدداً. وتعليله لذلك أنه أهون عليه شراء الكتاب مرة أخرى، من أن يقع تحت وطأة قلق أن يعيد الصديق الكتاب الذي استعاره.. وفي الغالب لا يعيده. (9) لو لم اقرأ كتباً. لو لم أقتن كتباً لكنتُ شخصاً آخر على شبه ضعيف بي. مع ذلك أجدني على فضول شديد للتعرف على ملامح ذلك الشخص وإيقاعه. (10) يا لهشاشة الكائن القارئ.. يشعر بالذنب حيال كتب بلا عدد لم تتسن له قراءتها. (11) مضى زمن كان يهجم فيه القارئ على الكتاب بملء حواسه وجُماع جوارحه. الآن يسعى القارئ ابتداء إلى وضع مسافة «موضوعية» بينه وبين الكتاب، كي يقرأه بحياد وحذر. (12) الكتاب الصغير الحجم مثل كتاب «الأمير الصغير» لأنطوان اكزوبيري، كأس شراب سائغ. (13) الكتاب الضخم مثل «موبي ديك» لهيرمان ميلفيل أو «دون كيخوته» لثربانتس، سفر شائق إلى بلد بعيد ساحر، ولكن مشياً على القدمين. (14) دوّنت الشذرات السابقة بعدما غلبتني، ونجحت في مزاحمة شهادتي على صلتي بمكتبتي، فتصدّرت هذه الشهادة. أودّ القول- ابتداء- إن مشروع مكتبتي، التي لم تكن ضخمة في أي يوم من الأيام، كان في الأصل أقرب إلى مشروع تمرد على كتب المدرسة التي لم أخترها والمطلوب حفظها غيباً، والإعجاب بها. نبتت لدي في وقت مبكر فكرة اقتناء كتب، وقد رأيت فيها منذ البدء كتباً بديلة، أو على الأقل رديفة للمنهاج المدرسي. أتحدث عن سن الخامسة عشرة تقريباً. الكتب ليست كتب المدرسة فقط! هناك كتب أكثر بكثير من كتب المنهج الدراسي! كان ذلك هو اكتشافي المبكر. الصحف أخذتني إلى القراءة في واقع الأمر إن الصحف هي التي قادتني إلى الكتب. كان أبي، رحمه الله، الموظف في مكتب الأونروا التابعة للأمم المتحدة في أريحا، يحمل معه لدى عودته من العمل صحيفة «الجهاد» المقدسية. كنت أقرأ فيها بشغف ابتداء من سن العاشرة. أقرأ العناوين ومقطوعات قصيرة من أحوال العالم وكتابات متفرقة. وأخذت القراءة تتسع شيئاً فشيئاً. بيد أني أدمنت بسرعة شديدة على قراءة الصحف. وقد عرفت أن هناك صحفاً أخرى غير «الجهاد» كصحيفة «الدفاع» التي يواظب جدي في حانوته وسط المدينة على قراءتها. كنت أذهب إليه وأنفرد بصحيفته في الجزء الخلفي من الحانوت، وهو بمنزلة مخزن. وذات يوم اكتشفت كنزاً! هناك ما لا يقل عن مئة عدد قديم من الصحيفة مخزّنة في الحانوت، وهذه تسمى بمرتجعات الصحيفة التي تباع بثمن بخس. وأقبلت على قراءة كل ما يسعني قراءته منها، مثيراً دهشة جدي أبو يوسف، الذي استغرب هذا النزوع الغريب لدي. بعدئذ حاولت الكتابة، وكتبت خواطر ووجدانيات سرعان ما نشرتها صحف مسائية، وحين قرأتُ اسمي مطبوعاً، وكنت في الحادية عشرة من عمري في صحيفة «الشعب» وصحيفة «المساء»، شعرت بمسؤولية عظيمة تجاه الكلمة وتعلقاً عميقاً بها. كما استشعرت وجودي وكياني كشخص قائم بذاته، وليس مجرد تلميذ في مدرسة أو فتى في عائلة. بعدئذ وبالانتقال من مدرسة البحتري الابتدائية إلى مدرسة هشام بن عبد الملك الإعدادية والثانوية، اكتشفت الكنز الأهم والأكبر. ليس صحفاً قديمة هذه، بل كتباً متاحة للقراءة والاستعارة، ومجلات أدبية كالأديب والآداب والعلوم (الأخيرة كانت تصدر عن دار العلم للملايين في بيروت، ورغم اسمها العلمي، فقد كانت حافلة بموضوعات ثقافية، وكان يرأس تحريرها الشاعر العراقي بلند الحيدري). والكتب التي شدّتني حينذاك هي مؤلفات جبران خليل جبران بمخيلته الطلقة المتمردة وأسلوبه السلس، وكذلك روايات محمد عبدالحليم عبدالله وجورجي زيدان التاريخية، ولم يستهوني مصطفى لطفي المنفلوطي آنذاك. منذئذ توطدت علاقتي بالكتاب، وهو هنا الكتاب الأدبي بالدرجة الأولى. ونشأ لدى الفتى حلم اقتناء كتب وإنشاء مكتبة خاصة. كانت هناك مكتبة صغيرة تضم بين عشرين إلى ثلاثين كتاباً لخالي المرحوم شاكر المعلم في المدرسة في بيت جدي المقابل لبيتنا، لكنها كتب سياسية، وقد التقطت من بينها رواية «البؤساء» لفكتور هيجو. بدا لي كتاباً ضخما، مقارنة بكتب المدرسة، لكنه أكثر تشويقاً بما لا يقاس. مكتبة خالي كانت نموذجاً يحتذى. لكن خالي أستاذ يملك راتباً، وأنا تلميذ أتقاضى مصروفي اليومي من أمي، وأنفق هذا المصروف كله على شراء حلوى الهريسة، وأحياناً حين أكبح شهوتي لالتهام الحلوى، أستبقي قرشاً واحداً لشراء صحيفة «المساء» أو «الشعب» التي أكتب بهما!. الكتب الأولى الكتب الأولى التي اشتريتها في سنوات الصبا من مصروف المدرسة، أيام كان المصروف بضعة قروش، كانت تبدو مهيبة ضخمة ذات حضور جبار مادي ومعنوي، وكأن الكتاب الواحد قلعة أو سيارة. من هذه الكتب أذكر ديوان «أعطنا حبا» لفدوى طوقان. وديوان «أنشودة المطر» لبدر شاكر السياب، طبعة دار مجلة شعر. وديوان قصائد لنزار قباني، وكتاب «المتمرد» لألبير كامو، وكتاباً لم أعد أذكر اسمه للكاتب اللبناني فؤاد سلمان، ورواية ليلى بعلبكي «أنا أحيا». الترحال من بلد إلى بلد لم يمنحني فرصة إنشاء مكتبة مستقرة، سوى في الكويت بين عامي 1975 و1986، ثم في عمّان محطتي الأخيرة والحالية. لستُ ممن يدفنون أنفسهم في المكتبة، وينقطعون عن الدنيا وما فيها. بقيت متعة القراءة كمتعة عظمى، وفرصة رائعة لا نظير لها للتأمل والعكوف على الذات، بيد أن هناك اهتمامات أخرى تنافس الاهتمام بقراءة المؤلفات الأدبية. مهنتي في الصحافة جعلتني على صلة بالحياة والواقع، وحرمتني من العزلة التي تستهويني! ووفّرت لي هذه المهنة متعة قراءة المجلات والصحف إلى جانب الكتب. والنكبة الفلسطينية الأولى 1948 والثانية 1967 جعلتني أؤمن أن الساسة والسياسيين والعسكريين هم من يقررون المصائر لا الأدباء والمفكرين، مع القناعة الوطيدة بأن الأدباء والمبدعين هم ضمير البشرية، وأن الثقافة هي شرط شارط للتمدن والتهذيب الذاتي والجماعي، وللتفاعل البشري والحضاري. علاوة على حاجة أخرى تنافس القراءة وهي الكتابة. فإذا انقطع المرء للقراءة في كل ساعة فراغ بصورة تامة، فمتى يكتب وكيف؟!. إنها مناسبة للجهر أني أحب القراءة أكثر من الكتابة. غير أني أستمد أمثولتي من الأدباء الكبار أنفسهم، تشيخوف وهمنغواي وكافكا وجيمس جويس وتولستوي وديستويفسكي وبيرنديللو ومحفوظ، وسواهم، ألم يكونوا يكفّون عن القراءة حين يشرعون بالكتابة، بل قبل الشروع بها، إذ أن الانقطاع إلى التأمل لفترات تطول أو تقصر هو المقدمة أو المدخل لعملية الكتابة. دار للتأمل ظلت المكتبة بالنسبة لي أشبه بدار للترحال عن الشواغل اليومية، والتأمل واكتشاف الذات، والنفس البشرية عموماً ومعانقة الأرواح. الأدباء الكبار أقرب إلى أساتذة روحانيين، وملهمين عظماء منحوا الحياة جمالها ومعناها. كنت أتمنى وما زلت لو يُتاح لي الانقطاع التام إلى القراءة والكتابة الأدبيتين، بيد أن الأوان قد فات. ليس فقط بسبب التقدم في العمر، ولكن كذلك لإيماني بأن نهضة الحياة تقوم، إضافة إلى الإبداع والثقافة، على أمور أخرى مثل الاهتمام بالأوضاع السياسية ومتابعتها، ومثل السفر، والتفاعل مع البشر، ومعاينة جوانب التقدم المادية والمعنوية على السواء. والآن، ومنذ مطلع الألفية الثالثة، فقد نشأ واقع جديد، هو المجال الرقمي والإلكتروني. إنه الحاسوب ومشتقاته وخدماته، وهجْر الورق والحبر، واكتشاف كتب بلا حصر على الشبكة العنكبوتية. ذلك أدى بي- كما بكثيرين- لتغييرات طرأت على الجهاز العصبي والذهني: السرعة، التنقل، نفاد الصبر، السباق مع الوقت. ها أنا أجلس وأكتب على الحاسوب، تحيط بي كتب المكتبة. أشعر بخيانتي لها تلك الكتب الورقية التي تحيط بي، فقراءاتي باتت معظمها على النت بما فيها قراءة الكتب. بِتنا نجلس أمام الحاسوب بخشوع واستغراق، بأكثر وأطول مما يفعله البوذيون أمام تمثال بوذا!. توطُّن لماذا لم أقرأ هذا الكتاب من قبل؟ يقول القارئ حين يفرغ من كتاب عظيم مضى ردح من الزمن على صدوره: إنه يكفي مرور بعض الوقت حتى يتوطن الكتاب في دخيلته، وكما لو أنه قرأه منذ عشر سنين وأكثر، ويتساوى بذلك مع القارئ الذي قرأ الكتاب غبّ صدوره. الكتاب لا يعود يفقد المرء كُتباً في مسار حياته ما يتسبب بجرحٍ مرير في نفسه يجعله يشعر بطعم الموت، وكما لو أنه خسر أحباء أو تباعدت السبل بينه وبينهم. على أنه يحدث أن يلتقي المرء مصادفة في دروب الحياة بصديق عزيز قديم، أما الكتاب الذي يختفي فيحتاج إلى معجزة كي يعود.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©