الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الخبز في مصر... مؤشر هشاشة الاقتصاد

الخبز في مصر... مؤشر هشاشة الاقتصاد
12 فبراير 2012
يمكن القول إنه ليس ثمة مؤشر أقوى على هشاشة أحوال مصر الاقتصادية من مؤشر الخبز الذي يعد مادة غذائية أساسية هنا. ففي كل يوم، تمنح الحكومة المصرية أكياس الدقيق المدعوم لمخابز معينة من أجل إنتاج الرغيف الذي يشتريه فقراء مصر العاملون بنحو ثمانية سنتات لكل عشرة أرغفة. ولكن في بعض الأحيان، لا يكون ثمة ما يكفي من الرغيف لتلبية حاجيات المستهلكين المتزاحمين أمام الأفران والمخابز التي تبيع الخبز المدعوم. وعلى رغم أن الأراضي الخصبة متوافرة وكثيرة في مصر، ولاسيما بمحاذاة نهر النيل ومنطقة الدلتا، إلا أن البلاد تعتمد على المنتجين الأجانب في معظم إن لم يكن كل احتياجاتها الزراعية تقريباً -بما في ذلك احتياجاتها الكبيرة من القمح، بطبيعة الحال. من المعروف أن الدولة تحدد أسعار السلع الأساسية مثل الخبز ووقود التدفئة لكي تبقى في متناول الشرائح الأكثر فقراً من السكان، ولكن عندما ترتفع تكلفة السلع المستوردة، يزدهر الاقتصاد السري الموازي غير المهيكل، حيث يبيع بعض أصحاب المخابز كميات الدقيق الممنوحة من قبل الدولة، بطريقة غير مشروعة، في السوق السوداء بدلاً من إنتاج الخبز، الشيء الذي يؤدي إلى نقص في هذه المادة الأساسية، ويجعل الطوابير المصطفة أمام المخابز طويلة للغاية، وأحياناً ما تتحول إلى حشود غاضبة ومحتجة. والواقع أن تراجع إنتاج مصر للمحاصيل الغذائية وتحولها من "سلة خبز" منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط إلى مستورِد كبير للحبوب، يشكل جزءاً لا يتجزأ من أزمة اقتصادية هيكلية تهدد استقرار البلاد واكتفاءها الذاتي. وحسب خبراء اقتصاديين وزراعيين، فإن عدداً من العوامل المتضافرة أسهم في هذا التراجع: حكومة مصرية رفضت على مدى سنوات مديدة إنشاء البنية التحتية اللازمة لإنتاج القمح بطرق اقتصادية، وعمليات خصخصة أضرت بالزراعة المصرية بسبب صفقات غير حكيمة وفاسدة في كثير من الأحيان؛ ومزارعون باعوا حقولهم إلى المطورين العقاريين، أو انتقلوا إلى زراعة محاصيل مربحة من أجل التصدير على حساب زراعة محاصيل الحبوب؛ وحكومة أميركية شجعت وروجت لمبيعات القمح الأميركي في مصر بدلاً من تشجيعها على انتهاج سياسات تؤدي إلى تحقيق قدر أكبر من الاكتفاء الذاتي في مجال المحاصيل الغذائية. ونتيجة لكل ذلك، تستورد مصر اليوم نحو 80 في المئة من احتياجاتها الزراعية من الخارج؛ وبالنظر إلى خفض متوقع لقيمة العملة في غضون هذا العام، بدأ المستهلكون يعدون أنفسهم لارتفاع محتمل في أسعار السلع الأجنبية، هذا علماً بأن البلاد تعاني أصلاً من وطأة عجز مزمن في ميزان المدفوعات. وعلاوة على ذلك، فإن التضخم، الذي يبلغ أصلا 9 في المئة، من المتوقع أن يرتفع خلال الأشهر المقبلة مع ارتفاع تكاليف الاقتراض. ومنذ الآن أيضاً، أخذت تظهر طوابير أصحاب السيارات القلقين بشأن مستقبل إمدادات الوقود، وهو سلعة أخرى تدعمها الدولة، وقد بدأت الزحامات والطوابير الطويلة تتشكل وتظهر في محطات الوقود. وفي بلد يعيش 40 في المئة من سكانه بأقل من دولارين في اليوم، يعتبر الخبز المدعوم من قبل الدولة سلعة إنسانية أساسية لا غنى عنها بأي شكل. وكانت جهود سابقة لرفع الدعم الحكومي للأسعار أدت إلى أعمال شغب، أخطرها تلك التي اندلعت في 1977، عندما أرغم الرئيس السادات على إعادتها؛ كما أن ضمان توافر الخبز بسعر معقول شكَّل، إلى جانب مطالب الحرية والعدالة الاجتماعية، أحد دوافع الثورة التي أدت إلى تنحية نظام الرئيس المخلوع مبارك قبل عام. غير أن المشاكل لم تزدد إلا سوءاً منذ تنحي مبارك، مما يثير إمكانية ظهور مزيد من الاضطرابات الاجتماعية وأعمال العنف. وفي هذا السياق، يقول محمد برغش، الذي يرأس "جمعية السلام" الزراعية: "إن كل شيء يبدأ بالزراعة… وإذا كان بلد ما غير قادر على توفير الطعام لسكانه، فإنه ليس جديراً بهذا الاسم". وعلى نحو غير مفاجئ، فإن معظم اللوم والمسؤولية عن انعدام الأمن الغذائي في مصر يلقى على مبارك. واثنان من وزرائه الثلاثة الأخيرين المكلفين بالزراعة يوجدان في السجن، حيث يواجهان، من بين أمور أخرى، تهمة السماح بدخول مبيدات ملوثة إلى البلاد وبيع أراض زراعية خصبة إلى المقربين من النظام مقابل مبالغ زهيدة لا تعكس قيمتها الحقيقية في السوق. وفي هذا السياق، قال الخبير الاقتصادي محمد جودة، الذي تربى على أيدي مزارعي القطن: "لقد قضى حسني مبارك على الزراعة المصرية"، مضيفاً "وذلك لم يحدث نتيجة إهمال غير مقصود، بل كان عملاً خبيثاً وفاسداً". فخلال حكم مبارك، يقول مزارعون مصريون، فشلت الحكومة في توفير أنظمة الري والكهرباء لأنها تعد أساسية بالنسبة لإنتاج المحاصيل التي تتطلب كميات أكبر من الماء، ولاسيما في بلد صحراوي يتميز بمعدل نمو ديموغرافي سريع. وفي هذا الإطار، يقول مزارع يملك آلافاً من الأفدنة في شمال شرق القاهرة إن عائلته تمكنت من ربط أرضها بالشبكة الكهربائية قبل عامين فقط بعد أن كانت تعتمد على مدى سنوات على المولدات الكهربائية الباهظة التكلفة. ومع ذلك، فإن وزارة الزراعة لم تقم بشيء غير منح التراخيص الضرورية لهذا العمل. ويقول هذا المزارع، الذي طلب عدم الكشف عن اسمه خشية أن يحتاج إلى مزيد من التراخيص مستقبلاً: "لقد قمنا بكل شيء تقريباً بأنفسنا، بما في ذلك التمويل"، مضيفاً "ولم يكن ثمة أي مخطط حكومي". والحال أن عمليات تحرير الاقتصاد التي ميزت الإصلاحات الاقتصادية في عهد مبارك كان لها أيضاً تأثير سلبي على مناطق زراعة القمح. ذلك أنه بينما فتحت اتفاقات التجارة الحرة خلال سنوات التسعينيات أسواقاً جديدة أمام التجارة المصرية، فقد تخلى المزارعون عن إنتاج المحاصيل ذات هامش الربح الضيق لمصلحة منتجات ذات قيمة أعلى مثل الفواكه والزهور. وفي الوقت نفسه، استسلموا لإغراء ارتفاع أسعار العقار عبر بيعهم حقول الحبوب للمطورين العقاريين، في تحدٍّ لقوانين التخطيط العمراني في أحيان كثيرة. وتعليقاً على هذا الموضوع، يقول وائل زيادة، رئيس البحوث في بنك "إي إف جي- هيرمس" الاستثماري: "لقد كان ثمة كثير من عمليات البناء غير القانوني للمنازل على بعض من أكثر أراضي البلاد خصوبة"، مضيفاً "ولا يمكنك أن تلوم (المزارعين) نظراً لغياب الحوافز التي قد تدفعهم للبقاء في الأرض". والواقع أن الحكومة الأميركية، إلى جانب صندوق النقد الدولي والبنك الدوليين، هي التي شجعت القاهرة بقوة على تحرير اقتصادها وتوسيع حصتها من التجارة الإقليمية. ومن الجدير بالذكر هنا أن واشنطن ألحقت باتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل التي رعتها في 1979 منح مساعدات مدنية سخية لمصر، معظمها يقدم من قبل الوكالة الأميركية للتنمية الدولية، التي تعد ذراع سياسات المساعدة الإنسانية لواشنطن. وحتى في الوقت الذي ضخت فيه الوكالة أكثر من مليار دولار في المناطق الريفية المصرية، معظمها على شكل دورات تدريبية وبرامج تدبير المياه، فإن العديد من المزارعين يشتكون من أن تراجع الزراعة المصرية هو فشل أميركي أيضاً بقدر ما هو فشل مصري. وبشكل خاص، يستاء هؤلاء المزارعون من كون الولايات المتحدة تعتبر واحدة من أكبر مصدري الحبوب -بفضل ضمانات القروض وأشكال دعم أخرى من واشنطن- في الوقت نفسه الذي يتقلص فيه إنتاج المزارع المصرية. ويقول برغش، رئيس "جمعية السلام" الزراعية، في هذا الصدد: "إذا كانت الولايات المتحدة أم الديمقراطية، فإنه يتعين عليها أن تذهب إلى الناس وتساعدهم على إطعام أنفسهم... والراهن أننا مازلنا نستورد معظم قمحنا من أميركا". ستيفان جلين - القاهرة ينشر بترتيب خاص مع خدمة "واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفيس"
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©