الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الديمقراطية والدين: تعويق أم تحفيز؟

12 فبراير 2012
لا يمكن اعتبار نزول الناس في العالم العربي إلى الشوارع والساحات والميادين العامة، وإعلانها بدء عصر الديمقراطية من خلال الدعوة لتحقيقها وإنجازها، ومن ثم حشد الجماهير وبدء إجراء الانتخابات لاختيار ممثليها في مواقع السلطة التشريعية وغيرها… لا يمكن اعتبار ذلك انطلاقاً فعلياً لقطار الديمقراطية والتنمية في العالم العربي، لأن الديمقراطية ليست مجرد شعارات أو انتخابات، بل هي أساساً وقبل أي شيء آخر مقدرة الناخب أو الفرد الحر والواعي على الاختيار العقلي الصحيح الخالي من أي نوع من القسر والقهر والإكراه والغلبة والزيف الفكري والثقافي. فلا ديمقراطية من دون أسس وقيم وثقافة ديمقراطية تجعل الفرد واعياً بما حوله، أي أن يكون الفرد صاحب اختيار عقلاني حر مصان بالقانون والدستور، وبعيد عن أي لون من ألوان الإكراهات المادية والرمزية. فهل تتوفر المناخات السياسية والثقافية العربية، التي انطبعت طويلاً بطابع ولاية المتغلب الدينية، على هذا الشرط الجوهري للبدء بعملية التحول الديمقراطي الحقيقي المنشود؟ وهل الفرد العربي حر في اختياره عندما يذهب إلى صناديق الاقتراع لينتخب هذا المرشح أو ذاك؟ إن الديمقراطية كآلية حكم وانتخاب تسمح لأصحاب التأييد الشعبي الأكبر والأعلى بالوصول إلى السلطة، من حيث الإطار والإجمال العام، وهي تقضي القبول بنتائج الصندوق بقطع النظر عن المقدمات والأسباب والدوافع ومستويات الوعي ومعايير الاختيار، أي أن قبول النتيجة مسألة أساسية لكل اللاعبين السياسيين، مهما كانت المعطيات التي أنتجها هذا الصندوق... لكن هذا شرط لازم وغير كاف، لأن كفايته لا تتم من دون وجود حداثة فكرية تقوم على إعطاء الفرد حريته الكاملة في اتخاذ قراراته وتحديد مصائره بوعي وإرادة واعية كاملة من دون قسر فكري ديني أو غير ديني. وهذا ما نراه ونعاينه في كثير من مجتمعاتنا حيث تستثمر الأديان والنصوص الدينية في الصراعات السياسية لمصلحة هذا أو ذاك، ولإسقاط هذا وتصعيد ذاك. وعدم وجود الوعي والحرية قد يؤدي لتشويه العملية الديمقراطية برمتها، حيث أنه من الممكن أن يؤدي الوعي الشعبي الساذج (المهيمن عليه من قبل نصوص وأفكار دينية) إلى صعود أفكار وقيم وطروحات متعصبة وأحزاب متطرفة قد تلغي كل العملية الديمقراطية وتنقلب عليها، وتبدأ بتطبيق مثلها وبرامجها الخاصة على المجتمع الذي انتخبها ديمقراطياً (بالمعنى الشكلي للديمقراطية طبعاً)، فتعيده مئات السنين إلى الوراء من خلال تشريعاتها الماضوية حول الهوية والمرأة والعمل وغيرها. ولهذا لابد أن نعترف بأن طريق الديمقراطية العربي طويل، ودونه تحديات جمة، ولن تصل المجتمعات العربية إلى غايتها في تجسيد الحقيقة الديمقراطية إلا بعد خوض سجالات وتدافعات ثقافية وسياسية طويلة. وتمكُّن تلك المجتمعات من إزاحة الاستبداد الذي كان مهيمناً على حياتها ليس إلا بداية طريق الألف ميل باتجاه التمكن الديمقراطي الذي هو مسألة مركبة كما ذكرنا. فنبتة الديمقراطية لا تزال طرية وغضة العود وفي بداية نموها في تربتنا العربية، بكل ما فيها من أجواء وأحزاب وتعقيدات، وبكل ما مر عليها من عواصف الاستبداد والقمع، لابد من رعايتها والعناية بها كي تنمو نمواً سليماً ومعافى، وتزدهر وتثمر وتبدأ بالإنتاج خاصة على صعيد التأصيل الثقافي والمعرفي لحقوق الإنسان التي لا تزال غائبة أو مغيبة عن أجندات كثير من حركات التغيير السياسي العربية. طبعاً ليست لدينا أية علاجات سحرية ولا حلول فورية، باعتبار أن ذلك مرهون بالصراع السياسي الداخلي وخوض غمار النضال السلمي والتحديث المعرفي المتواصل، والعمل على تخفيف الحمولة الأيديولوجية الثقيلة التي تنوء تحتها مجتمعاتنا ولا تزال تكلفها الكثير من الخسائر المادية والمعنوية. ولا نعني هنا أن الدين هو الذي جعل الأمة عموماً تتقهقر وتتراجع، وينحسرعطاؤها عن ساحات التبادل الحضاري العالمي، بل نعني أن تحميل الدين بما لا يطيق من أفكار وحمولات معرفية وسياسية لإضفاء المشروعية الدينية على أنظمة حكمت بقوة التغلب والاستبداد، هو الذي عطل مواقع الإبداع والعطاء في جسم هذه الأمة، وساهم في تقديم صورة نمطية وحيدة عن الدين من حيث هو سلطة مطلقة وحقيقة عليا، يقوم على قواعد صارمة من الإلزامات السلوكية الشكلية القادمة من عوالم الفقه والوعظ المسجدي العتيق. وهذا ما أدى إلى إغلاق عقول الناس على قيم الماضي البعيد، وحطم كوامنها وإراداتها الذاتية التي كان من المفترض أن تدفعهم وتحثهم على العمل والإنتاج والإبداع والمشاركة في الخلق والفعل، وعدم الانزواء في الزوايا والتكايا المقدسة. وهذا هو الفهم المغلق للدين والهوية الدينية. أما الفهم الآخر للدين القادر على بث روح العمل في نفوس المؤمنين به، فهو دين الحرية، دين الاختيار الحر الواعي، الذي يمكن اعتباره مرجعية متنوعة، ورأسمالاً معنوياً وحضارياً لمجتمعاتنا العربية، ومنظومات فكرية وأخلاقية عامة تنشد الجمال والكمال الروحي للذات الفردية. وهذا الفهم العقلاني لحركية الدين والتدين هو الذي يمكن أن يدفعنا لممارسة عقلانيتنا وحداثتنا بصورة منتجة وفعالة ومؤثرة... والتفاعل مع الحياة بعقلية التشارك والتبادل والحوار والتداول، والتحول المبدع على مستوى الفرد والمجموع ككل. نبيل علي صالح - كاتب سوري ينشر بترتيب مع مشروع «منبر الحرية»
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©