الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

أولاد أحمد.. أحب تونس كما لم يحبها أحد

أولاد أحمد.. أحب تونس كما لم يحبها أحد
13 ابريل 2016 21:42
ساسي جبيل - تونس (الاتحاد الثقافي) رحل الشاعر التونسي الكبير بعد عيد ميلاده الواحد والستين بيوم واحد. رحل صاحب قصيدة «نحب البلاد كما لا يحب البلاد أحد»، تاركاً رؤوس أقلام لقصائد أجهز عليها المرض الخبيث الذي يقول عنه (إنه مرض أمِّيٌّ لا يحسن القراءة والكتابة). رحل المتمرد والمشاكس والساخر الذي عرف بعدائه التاريخي للإسلام السياسي. رحل فارس الشعر التونسي وهو يحمل حلماً تحقق منذ ما يزيد عن العشرين عاماً، حين كان أول مؤسس لمؤسسة بيت الشعر في تونس التي انتشرت بعد ذلك لتصبح معممة في كثير من أقطار الوطن العربي. لم يمنعه مرضه في العام الأخير من عمره من كتابة عدد من النصوص التوديعية التي كان فيها متماسكاً ومنتصراً للحب والفرح والحرية، كما كان دائماً وطوال مسيرته التي بدأت منذ ثمانينيات القرن الماضي في الفضاءات الجامعية وفي ساحات اليسار التونسي خصوصاً. ولد الشاعر العام 1955 في ريف خصب بـ«سيدي بوزيد» في الوسط الغربي التونسي، لينتقل إلى العاصمة طالباً ويستقر هناك، عرف بجرأته ووضوحه المتجاوز للوضوح أحياناً، وشكل وجيله حركة أدبية مختلفة منذ ثمانينيات القرن الماضي انتهت بتأسيس أول بيت للشعر في الوطن العربي أداره بنفسه قبل أن تقرر وزارة الثقافة عزله ليتفرغ بعد ذلك للنشر متخلصاً من ربق الإدارة، كما عرف الشاعر بمقالاته المشاكسة والمخاتلة، وبمواقفه الطريفة في التناول والجريئة في الطرح. قصائد مريضة صاحب «نشيد الأيام الستة» و«ليس لي مشكلة» و«الوصية» و«تفاصيل»، و«جنوب الماء» وغيرها من الكتب الشعرية والنثرية، كان أعلن عن مرضه بنفسه بشكل مفاجئ العام الماضي قائلاً: خُضْنا حروباً عدة ضد استبداد الإدارة واستبداد الدولة واستبداد النقد الأدبي واستبداد التأويل الديني، لم ننتصر بالكامل، ولم ننهزم بشكل حاسم، وها نحن الآن نخوض حرباً مع مرض أمِّيٍّ.. لا يحسن القراءة والكتابة....لا نُحمّل المسؤولية لأحد من هذه البلاد التي أحببناها صباح مساء ويوم الأحد.. في انتظار أن تحبّنا هي بدورها.. إذا وجدت يوماً شاغراً في أيام الأسبوع... شكراً لكل من استخبر وسأل وواسى... شكراً للطبيبات والأطباء». كما كتب في 16 يونيو الماضي نصاً غارقاً في الحزن قال فيه: أُحبُّ ثلاثةً ماتوا: أبي والموتَ والشعرَ العظيمْ أُجلُّ ثلاثةً عاشوا: الحياةَ وبنْتَها ومُضارعَ الأفعال في النحو القويمْ أُطلُ على الحقيقة: «فوهةٌ جبليةٌ» لا الرملُ يُشْبعُها ولا الماءُ العميمْ أُقلُّ على السفينة نُسْختيْن منَ البلاد… وخيمة أغفو بها… وأنا أُحلقُ، كالفراشة، في السديمْ ألحّ على الفواصل والنقاط لأنني لا حرف لي غير الفواصل والنقاط سماؤنا مشكولةٌ.. أيضاً ولا لغة لها منذ القديمْ أولاد أحمد الذي أطرب بشعره ونثره العميق توعد الموت دائماً حتى اختطفه وهو بصدد كتابة نصه الأخير على الحاسوب في المستشفى العسكري بالعاصمة تونس التي شهدت صولاته وجولاته، ولم يبالِ بالمرض الخبيث وبصوت يدوي وينشد قصيدته الأثيرة على النفوس: نحب البلاد كما لا يحب البلاد أحد نحج إليها مع المغربين عند الصباح وبعد المساء ويوم الأحد وقبل موته بساعات نشر أولاد أحمد هذه التدوينة النص الممهور بـ«تونس» قال فيها: سلّمتُ في الدُّنيا... وقلتُ: أكونُها: شعراً ونثراً ناقداً ومُبشّرا... طولَ الفصولِ الأربعةْ أنْثَى و أمّي ليس لي.... قبْرٌ في الما- بعْدُ سوى هذي الحُروفِ الأربعةْ كما نشر الشاعر في يوم عيد ميلاده الموافق للرابع من أبريل الفائت تدوينة عنونها بـ«ميلاد» جاء فيها: عيد ميلاد في غرفة أنيقة بالمستشفى العسكري؟ هذا يحدث أيضاً.... سأعيش هذا العيد وأحكي لكم، رغم أنّ أصابعي تثقل زمن الكتابة، وعواطفي تنساب بغزارة إذا تمكّنت من الكتابة». مقام الأصدقاء في مقام الموت تتعطل الكلمات، ويبوخ الرثاء، لكن الصغير أولاد أحمد يُحكى خارج هذا كله، كما يقول الإعلامي التونسي عبدالكريم قطاطة: «يموت الشعراء فيتحول كوخهم إلى مزار للشمس والنور والضياء... ويموت اللصوص بكل المفاهيم فتتحول قصورهم إلى ملاعب للعنكبوت... وفي الحالتين سيتحول الميتون إلى التربة... الشعراء يسقونها بشعرهم الذي يبقى مدوياً تحت التراب وفوقه، واللصوص ستتبعهم اللعنة تحت التراب وفوقه. رحم الله الصغير أولاد أحمد ذلك الصعلوك الجميل الذي أحب تونس كما لم يحبها أحد - من اللصوص. أما الشاعر السوري هاني نديم بحبوح فلم يزد على أن روى هذه الحكاية الدالّة: قرأت مرةً واحدةً على منبرٍ واحد أنا ومحمد الصغير أولاد أحمد. كنا في مهرجان شعري كبير وكل أمسية فيها 6 شعراء، صعد الشاعر الأول فقرأ قصيدة على البحر الطويل، نبّه مدير الأمسية على الزمن وأنزله من المنبر بعد مئة بيت ويزيد. صعد الشاعر الثاني، قرأ قصيدة تفعيلة «متفاعلن» لعن روح كل الجالسين والناهضين.. ولم يكتشف هذا إلا حينما احتجت الجماهير بصفير طويل. مدير الأمسية أبدى امتعاضاً.. ونبّه إلى الزمن. صعد أولاد أحمد فأراد المدير أن يكلمه فوضع يده أمامه أن كفّ، وصعد إلى المنبر غاضباً لم يطفئ سيجارته، قرأ: «الريح آتيةٌ وبيوتهم قشُّ والكفُّ عاليةٌ... وزجاجهم هشُّ» ونزل.... غاضباً. لن تدخل عليه «كانَ» الكاتب المغربي عبدالله المتقي قال: أولاد أحمد شاعر نادر ومتفرد... ومثله لا تجود به القصيدة إلا لماما... شاعر كبير وأقولها ملء السماء وإيقاع القصيدة... ومثله لن تدخل عليه كان... سيظل حاضراً في حياة الشعر... كما الشعراء النادرون في زمن قل فيه المجاز وتعدد الناظمون... أولاد أحمد شاعر تونسي أولاً.. وعربي ثانياً.. رحل كي يترك جرحاً نازفاً في عشاقه وفي قلب القصيدة.. رحل أولاد أحمد وترك خلفه تراثاً شعرياً من الواجب أن يدون ويؤرشف لأنه ملكية للذاكرة الشعرية... شاعر سخر من الدنيا بلون أسود.. وها هي تتخلص عنه... رحل وفي قلبه تونس.. رحل.. لأن سرطان المرحلة أنهك جسده. بدوره أكد الشاعر التونسي سالم المساهلي: حين يغادرنا شاعر أو قاصّ أو موسيقي أو رسام أو سينمائي، تسقط قطعة من أفق المعنى وفسحة الدلالات التي نحتمي بها من صقيع الجفاف الماحق. المؤلم أن أمثال هؤلاء لا يولدون كلّ يوم، وعلى الأمّة أن تنتظر طويلاً كي تكتشف مُبدعاً ما وتنصِفه. والأشدّ إيلاماً... أنهم يمضون دائماً في لحظة سهو. هذا هو قدرُنا في عالمنا العربيّ. كان الصّغيّر أولاد أحمد شاعِراً متمكّناً من أدوات اشتغاله، صادقَاً في وفائِه لما يؤمن به ويعتقده لذلك لن تخذلَه ذاكِرةُ الشّعر. رحم الله الشاعر أولاد أحمد.. الذي عاش لرأيه واختياره الفكري بشجاعة نادرة. شاعر الفكاهة السوداء الشاعر العراقي شوقي عبدالأمير قال للاتحاد: التقيته مرة واحدة في تونس قبل عشرين عاماً.. الصورة التي انطبعت عنه في الذاكرة لم تتغير.. الفكاهة السوداء، اللحظة المتوترة والطفولة التي تخترقها صيحات الشعر وملامح الجنون المبرر.. كان يريد أن يبدو شاعراً في كل جزئية من وجوده اللغة لم تكن إلا الشاشة الأوسع للشعر، كانت كل مفردات وجوده تنزع نحو القصيدة.. أولاد أحمد كان قصيدة وشاعراً. أما الإعلامي التونسي سعيد الخزامي فكتب على صفحته: رحل شاعرنا الكبير الصغير أولاد أحمد وتركنا نحن الذين نحبه، في لوعة. أولاد أحمد كتاب يختزل تاريخ تونس القريب في تقلبها بين الضعف والبأس، والنعيم والبؤس، والأمل واليأس.. يذكرني بالكثير مذ عرفته عن قرب في الثمانينيات في عاصمة الرشيد بغداد وكنا في عز الشباب، وكان هو قد بدأ يتقد شعراً وينفجر بركاناً في حب تونس... كنا جميعاً حسن بن عثمان والمنصف الوهايبي ويوسف رزوقة ومحمد العوني لا يحلو لنا السمر إلا إذا حضر الصغير وكان الأكبر بيننا بصخبه وانفعاله وقوة حجته، وشراهته لنواسياته... كان أولاد أحمد ـ كما عرفته ـ متمرداً شرساً في زمن بورقيبة يعيش بيننا ناقماً على النظام، حاقداً على سطوته في معالجة الصراع الساخن داخل الجامعة بين اليسار والإسلاميين والدساترة وما تخلله من أحداث 26 جانفي، وقفصة، والخبز، ربنا إنك تعلم أنه من أهل المعرفة، ونعلم أن رحمتك واسعة. فتقبله بغفرانك وأدخله جنتك. وكتب الشاعر والإعلامي الفلسطيني عمر شبانة إثر وفاة الشاعر: إنّه الموت مجدّداً يختطف أرواحنا.... لا عزاء في الشّعراء، ولكن وداعاً يا صديقي الشاعر، وداعًا «أولاد أحمد» قبل عام، فقط، كنّا في شارع بورقيبة، وكنت تصافح الناس بحب وجنون، قبل عام فقط كنّا نسمع قصيدتك «إلهي»، ونضحك في نادي الصحافيّين التونسيين، قبل عام فقط، كنت تقرأ لنا: «إلهي، حبيبي، ويا سَنَدي، نشرتُ كتاباً جديداً، فبِعْهُ... بلا عدد..». وقال الشاعر والإعلامي التونسي نورالدين بالطيب أحد أقرب أصدقاء الراحل لـ«الاتحاد»: بعد مسيرة حافلة من الإنجازات الشعرية والنثرية وصراعات مع السلطة ومع الإسلاميين والكتُاب المزيفين والبيروقراطية الإدارية والمؤسسة الاجتماعية والقبلية التافهة استسلم أولاد أحمد إلى المصير المحتوم ولم يقدر هذه المرة على العناد. رحل أولاد أحمد وسيبقى صوته تحمله أجنحة عصافير باب البحر والقمر الذي يضيء ليالي الفلاحين في أرياف سيدي بوزيد التي حوُلها إلى مدينة تعدُل إيقاع العالم. لم يكن أولاد أحمد طيلة حياته يحلم بشيء أكثر من أن يكون كاتباً منح الكتابة عمره ووجدانه ومنح الناس عصارة وجدانه أليس رحم الله أبا ناظم الكلمات! (ناظم وكلمات هما ابنا الشاعر وهما أحد إنجازاته الشعرية كما كان يقول دائماً).. وداعاً صديقي اللدود. أما الأديب محمد علي الشرايطي فكتب مخاطباً أولاد أحمد: ترجَّلت يا صانع النصوص الجياد والشعر الدفَّاق الذي مهرته ببساطة اللغة عندما تميس وتخاتل.. ليهنك المعراج الأسنى إلى برازخ الرحمات حيث تغتسل القلوب من أدرانها الناسوتيَّة لتنصهر في الحقيقة الربَّانية المطلقة... لتكن وحدة الشهود الإلهي لائقة بك شاعراً معنَّى؛ فلقد طلبت المعونة منه حال الوجد والسكر والمحبَّة فلتفتح عيونك لترى أنواره التي لايراها إلا الأنبياء والشعراء والعارفون والفقراء العطشى.. اخلع نعل الأجساد الفانية فإنك بالملكوت النوراني... لتنزل على روحك البرزخيَّة مزن الأعطاف الرحمانية ولطائف الجمال الربَّاني... إلى رفيقك الأعلى يا محمد الصغيَّر أولاد أحمد. لا وداع وإنما هو الوصل السرمدي. نعي رئاسي أرسل الرئيس التونسي الباجي قايد السبسي برقية تعزية إلى أرملة فقيد الساحة الشعرية والثقافية محمد الصغيّر أولاد أحمد جاء فيها: تلقيت ببالغ التّأثر وعميق الأسى نعي فقيد الوطن والشّعر والثّقافة المرحوم «الصغيّر أولاد أحمد» الذي عانق مشاغل شعبه والتصق بهمومه وناضل دون هوادة في سبيل حرّيته وكرامته، وامتزج شعره بحبّ البلاد كما لم يحبّ البلاد أحد. ونعت رئاسة الحكومة التونسية فقيد الثقافة التّونسيّة الشّاعر الصغيّر أولاد أحمد، وقالت: خسرت تونس برحيله فارساً من فرسان الثقافة والإبداع. وأضافت: لقد كان أولاد أحمد مدرسة للفن والحياة والنضال، تربت على يده أجيال من الشعراء والفنانين والمثقفين. وبهذه المناسبة الأليمة تتوجه رئاسة الحكومة بأحر التعازي إلى عائلة الفقيد وكامل الأسرة الثقافيّة، وتؤكّد من جديد دعمها الثقافة والمثقفين، وتثمّن دورهم الوطني بالنقد والرّأي الحرّ وتنوّه بإسهاماتهم في شتّى المجالات الإبداعيّة. من آخر ما كتب قد أموت شهيداً وقد لا أموت شهيداً هكذا قلت للصحفيِّ، وعدْتُ إلى البيتِ… أكتبُ هذا القصيدَ داخلَ المصعد الكهربائيّ قطٌّ، يجاورُني منذ عام، غداً نلتقي: قالَ، قلتُ: غدًا ليسَ يوماً أكيداً ها هيَ الكلماتُ، والوقتُ أبْيض فإن تُشيّدُ للموت عُشّيْن: عشاً حديثاً… وعشّاً جديداً أيها الربُ والطبُّ: لا تَتركاني، مع الذئب، وحْدي وإن شئتُما فدَعاني إلى وحْدتي… واحداً ووحيداً.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©