الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

فؤاد الشطي.. المتمرّس في الجمال

فؤاد الشطي.. المتمرّس في الجمال
13 ابريل 2016 21:42
ظافر جلود فقدت الساحة المسرحية الخليجية والعربية برحيل الفنان الكويتي فؤاد الشطي مخرجاً متميزاً، وسيحفظ له سجل المخرجين المسرحين الكبار في تاريخ المسرح العربي اسماً حاضراً ومرصعاً بالمنجز الإبداعي. لقد سطع اسم فؤاد الشطي في الساحة المسرحية الكويتية مخرجاً استثنائياً وإدارياً ناجحاً على صعيد المطالبة بحقوق الفنان المسرحي. ولا بد لأي باحث يهتم بمنجز وتاريخ المسرح العربي من التوقف عند ظاهرة فؤاد الشطي الذي قدم عدداً من علامات المسرح الكويتي والعربي مثل: (نورة، رحلة حنظله، القضية خارج الملف، الثمن) وهي المسرحيات التي قدمتها فرقة المسرح العربي الكويتية، كما أن لديه أعمالاً تلفزيونية قام بإخراجها لتلفزيون الكويت، أما الشطي الإنسان فهو الكريم المضياف الذي فتح بيته لكل صديق وفتح قلبه لكل رفيق. يعد مسرح المخرج المسرحي الكويتي الطليعي فؤاد الشطي اتجاهاً وتركيبة تؤسس تناقضات الواقع بخطاب عنيف وبثيمات لا تخلو من الهزات التنويرية، التي تعكس جذوره المتصلة بهموم انحيازه الكامل للإنسان، فمنذ أكثر من ربع قرن مع المسرح تجلت قدرته وتمرسه في اتجاهات جمالية حسية وبسيادة الحداثة الشكلية، التي غالباً ما ترتقي بالفكرة إلى توهج انفعالي وبتدرج عقلاني ينسجم مع كل المساحات الفكرية التي تتأسس على مبدأ الاختلاط الثقافي بين متلق وآخر يجمعهم عرض ومكان واحد، فيما يسمو باللغة إلى مصاف الشعر، في تتويج لفظي قائم على النطق السليم للأحرف الصوتية وقوة في الأداء تصل أحياناً إلى حد الاندماج. لقد انهمك المخرج فؤاد الشطي منذ رحيل صقر الرشود، باعتباره الوريث الشرعي لتجربة مسرحية عميقة، في الحفاظ على المنجز المسرحي الذي تحقق للكويت منذ منتصف الستينيات، خاصة بعد أن أسست بنياناً راسخاً من المعرفة والحداثة على يد عديد من الخبراء العرب الذين عملوا في الكويت في فترة الستينيات من القرن الماضي، مما وضع مسرحها بدرجة متقدمة وبموازاة أهم المسارح العربية كالقاهرة وبيروت ودمشق وبغداد من حيث تناول الموضوعة والقدرة على محاكاة التطور في صناعة التجربة المسرحية شكلاً ومضموناً، بالإضافة إلى وجود العناصر القادرة على التعبير في الأداء والمبادرة في تأسيس وظهور العديد من الفرق المسرحية التي أخذت بزمام المبادرة نحو مسرح حقيقي. وكان من أبرز ظواهره هذه النخبة من الأسماء المسرحية التي حفرت في الذاكرة المسرحية ومنها الفنان الباحث والمجرب والمكتشف فؤاد الشطي، الذي وقف مع فرقته العتيدة (المسرح العربي) طوال هذه الفترة بعيداً عن هاوية سقوط المسرح إلى الفراغ، وغياب وجوده الحضاري والثقافي والإنساني. لقد صمد رصيناً تجاه هذه الموجات العابثة بمقدرات الآخرين فقدم عديداً من المسرحيات الناجحة فكرياً وفنياً سعياً إلى خلق جمهور متذوق للعمل المسرحي الخالص. انتماء عروبي لقد انتمى الفنان المخرج فؤاد الشطي إلى قضايا أمته العربية منذ أن بدأت بواكير اتجاهاته الفكرية في التعمق نحو قضايا الإنسان، فهو وإن قدم بعض الحلول في معظم أعماله المسرحية، سواء التي قدمها في الكويت أو في أغلب العواصم العربية، إلا أنه يواجه الواقع بكثير من الأسئلة الجادة لكنها في حقيقة الأمر سوداوية، وهي سمة مشتركة في أغلب أعمال الشطي الإخراجية، فإنك وللوهلة الأولى تجد نفسك أمام متنفس حقيقي يفتح أساريرك المنغلقة من هموم شتى لكنك لا تدرك أنه يستدرجك ببطء نحو المعادلة التي يريد أن يحققها في عرضه المسرحي، وهو لا يستغفل المتلقي بقدر ما يتغلغل بذكاء في وجدانه. وربما لأن فؤاد الشطي من جيل امتلك أدواته الفكرية والسياسية التي أحاطت بسلسلة من المواقف القومية وأرادت أن يكون للمثقف دور ورأي واضح في تعرية الواقع وكشف بواطن الأمور، فيتصدى في مسرحية رحلة حنظله (1985) ليقدم ترجمة نقدية لرؤياه وقراءته الجيدة للنصوص التي تتوافق ومنهجيته وأسلوبه في التوافق بين المسرح كلغة تأثير كفن قائم بجماليته وحسيته وبين القيمة السياسية والاجتماعية. الوعي.. مواجهة ومن يريد أن يخوض في أعمال فؤاد الشطي عليه ألا يترك فسحة للتخيل، بل يغوص في عمق الواقع، فالجرذان الذين يتسربون من شقوق الخشبة للصالة، يحملون هذا الجذام الفكري العسير شفاؤه، بعد أن جرى إحكام طوق الاستلاب على الجمهور، والشخصيات التي تأتي من عمق الزمن ليست قادرة على صياغة الرد والقضاء على هذا الطاعون.. إنها ساكنة كالأشباح، وليس ثمة تغير يلوح في الأفق سوى المواجهة بالوعي الاجتماعي، وهي لازمة يكررها الشطي في أغلب أعماله الإخراجية، فالوعي هو المرادف الموضوعي للخلاص من مشاكل الإنسان المستديمة. بالمقابل، يذهب بنا الشطي إلى شواطئ أكثر أمناً - بشرط امتلاكنا الوعي - قادرة على إضاءة هذه الأنفاق التي حفرت في أعماقنا حينما قدم مسرحيته الشهيرة مع فرقة مسرح الشارقة الوطني (هالشكل يا زعفران)، والتي رصد عبرها مواقف اجتماعية لكثير من السلبيات التي تتوافق مع ما يذهب إليه.. إنه الوعي كظاهرة مركبة ومتكاملة لا تنفصل عن أعماله السابقة. يستقي الشطي الشكل المسرحي من المضمون مع التأكيد على العنصر الفكري في هذه المتواليات من الأحداث، التي تؤكد المواقف الإنسانية، والتغيرات الحاصلة في سلوكها تحت الضغوط وإشكاليات الحياة، لكنه فاجأ متتبعيه في عام 1989 حينما قدم مسرحية (القضية خارج الملف)، وهي معدة عن مسرحية (الدراويش يبحثون عن الحقيقة لمصطفى الحلاج)، فهو يقدم سيلاً من الأسئلة في لحظات إنسانية متعددة تتبنى الخلاص من الوعي الذي يأتي بصاحبه إلى الهلاك الذي يتجرد من شخصيته لينتحل أخرى تحوم حولها الشكوك تحت وطأة التعذيب الوحشي والقمع الفكري ولذة السلطة بالتفرج على مسخ الإنسان ليحولها إلى خلية فاقدة الحس، لكن هذا التحول يولد العنف المقابل ويفجر لحظة الانتماء إلى المواجهة ويرتقي بالحدس الإنساني البريء إلى حالة من الوعي الجمعي الذي يخرج من إطار الغربة إلى المجموع بمعادل موضوعي وبخطاب غير مباشر إلى ثورة التحول على الذات نفسها من أجل الحرية والحياة. عن المسرح السياسي وفي مسرحية (رحلة حنظلة) تأليف سعد الله ونوس، يغوص في هذا الخلط من النباهة والقدرة بحيث يكون للمسرح تأثير سياسي بالضرورة وفق التحليل المنطقي للشخصيات والأحداث التي تجري مباشرة أمام النظارة، فهو يمسك الخيط الرفيع الذي يفصل بين الشحذ والتنفيس عند حرفوش بحيث يضع المقاس النفسي لهذا التفاعل عند الصالة التي تستوعب الحدث تدريجياً وتنهمك في التعرية التي تبدأ من الداخل. وربما تكون الصرخة الأخيرة للمشاهد هي الفعل الرابع في المسرح بعد الممثل والمخرج والمؤلف وهنا مربط الفرس في المسرح الذي يهتم بالسياسة مباشرة وبين المسرح الذي تتخلله السياسة، وهي لعبة تقنيات فكرية واعية وراصدة تتحرك بكامل وعيها على هذه المساحة. فحنظله يمثل الرمز الواقع تحت الضغوط التي تعيشها المجتمعات العربية حيث يتلاشى كل شيء تحت ركام الجبروت والغفلة بانتظار المصير المجهول. هذا فيما يخص النص، أما الشكل فإن المخرج الشطي تعامل مع القضية بحدود مفتوحة استدراكاً لأبعادها الإنسانية الشاملة، لينتقل بكامل الحرية بين هذه الأوجاع والآلام وكأنه يدرك سلفاً أن رداءي الغربة والتغريب يزحفان عليه بشيء من التوجس واستدراك الأشياء قبل وقوعها، فنجح في تقديم نسق قائم على الوحدة الداخلية للكل من خلال العلاقة المتبادلة بين الاتجاه البريختي والواقعية الرمزية حيث التناقضات والتوتر والصراع ببنية جمالية وبأدوات بسيطة على الخشبة، أنه التفاعل الجمعي إزاء التكوين الفكري للسينوغرافيا والديكور، مع أنه غالباً ما يميل إلى تغريب شخصياته وينتهج أسلوباً ملحمياً في منظومة أفعاله الإخراجية التي تتلبس الأحداث دون أن تغيب الوعي وتترك للمشاهد الحكم النهائي بعد ملامسة الواقع. إذن فالهمّ الفكري عند الشطي لا يتقاسم في مسرحياته، بل يزيد عليها اعتبارات جديدة مع تحديث الأفكار والشروع في بناء فلسفي قائم على رصد الظاهرة وتحليلها، فالواقع حزين ساخط وغير ساخط، والموقع محاصر بفضاء معتم والرغبة في التخلص من السجن الداخلي للشخصية المتأزمة والبحث عن مكنونات وجودها قابل لتغير الزمن ضمن فضاء المكان والأحداث، أي بمعنى تبني دلالة التوق للحرية والخلاص من خلال أفعالها وتجاوز سلطان الخوف والحيرة. وطبيعي أن نصوص مسرحياته التي تتميز بثراء واضح، تنطلق من موضوعة تلامس الأغلبية بتحليله العميق وحواراته الطويلة يحتاج إلى لغة إخراجية قادرة على الإثارة والاندهاش ومسك المشاهد منذ الوهلة الأولى مع الأحداث فإن الشطي تخلى عن السكون ولحظات الصمت واستدرك لعبة حركة السينوغرافيا، فكل شيء على الخشبة يوحي بدلالات الفكرة كالحبال والدمى والفوانيس والسوط إضافة إلى الحركة المحورية للشخصيات لكي لا يبقى الزمن سردياً، بل إضاءة على رؤية المستقبل وقراءة الواقع بشكل تنويري. رؤية استراتيجية من نظرة نقدية فاحصة، وقراءة لمجمل إعماله، نجد أن المخرج النبيه والمؤثر في مجمل حركة المسرح العربي المعاصر الفنان فؤاد الشطي هو مخرج ذو رؤية استراتيجية في اختيار النصوص، فهو لا يذهب للسهل أو يلجأ إلى العنف في اللغة التي قد يصعب فهمها عند المتلقي، بل إلى إيجاد أرضية وفعل مشترك يقتسم فيه الفضاء العام للفكرة أينما وجد عرضه وفي أي مكان أو زمان رغم أنه يميل في بعض الأحيان إلى إيجاد نوع من المقارنة الزمنية حيث نكتشفها في أعماله الأخيرة مثل مسرحية «احذروا» للمؤلف محفوظ عبد الرحمن. هنا يقدم نموذجاً للخراب الذي أطاح الحضارة العربية، مستخدماً رمزاً تاريخياً ذا دلالة بمعناها البسيط المجرد كسد مأرب الذي تآكل بفعل الفئران في استعارة رمزية مزدوجة، تستحضر الماضي للإخبار عن الحاضر واستشراف المستقبل، وبكثافة إخبارية إيحائية تؤدي إلى تعدد المعنى وشموله كالتحذير من العواقب بسبب حالة التشرذم والتمزق التي أصبحت من سمات وملامح الأمة العربية. رحم الله الفنان والإنسان والصديق فواد الشطي، الذي كان بحق قامة مسرحية منحت المسرح تدفقاً حياتياً في اتجاه إدراك الوعي واستغلال المعرفة من أجل الإنسان، بعد أن ترك للمسرح العربي إرثاً وكماً نوعياً عمق من خلاله التجربة المسرحية التي استطاعت أن تؤكد حضورها في المحافل العالمية. نعي دولي نعى محمد سيف الأفخم رئيس الهيئة الدولية للمسرح أمس وفاة المخرج والفنان الكويتي ورئيس مجلس إدارة فرقة المسرح العربي فؤاد الشطي الذي وافته المنية بعد صراع مع المرض. وقالت الهيئة في بيان لها: «إن الراحل الشطي كانت له إسهامات كبيرة على صعيد المسرح العربي والدولي وعرف عنه اهتمامه بدفع عجلة المسرح الكويتي والخليجي إلى آفاق أعلى وأرحب». وأضافت أن الراحل كان فاعلاً في الساحة الدولية عبر تمثيله الهيئة الدولية للمسرح في الكويت وعبر عضويته في المكتب التنفيذي للهيئة على مدار سنوات مضت. وأكدت الهيئة أن الراحل يعتبر أحد أعمدة الحركة المسرحية في الكويت والخليج العربي «وساهم في احتلالها لمكانة متميزة في عالم الإبداع الفني منذ حقبة الستينيات مؤلفاً ومخرجاً».
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©