السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

تفكيك العقلانية التدميرية

تفكيك العقلانية التدميرية
13 ابريل 2016 21:42
د. رسول محمد رسول غالباً ما يولد الفيلسوف قبل أوانه، ففي عصر الاشتباك الثقافي والفكري والميداني المعقَّد الذي يولِّد الجهل بحالة العلم والوجود البشري، ترى الفيلسوف يعيش على نحو استشرافي لتدارك مخاطر ما يجري في ظل هيمنة (العقل التدميري) الذي يرجع إلى منطلقات منغلقة يبني بها سرديات شمولية مفكَّر فيها لتسود بحكمه وسلطته وجبروته. في مطلع القرن الحادي والعشرين، أصبحنا نرى بشاعة العقلانية التدميرية (Destructive rationality) وهي تهيمن على وجودنا البشري في ظلِّ هزيمة العقل الإصلاحي التنويري الذي كان أمل البشرية في تجاوز أزمات لا معقول البشر والحضارة والثقافة في القرن العشرين وما بعده من عقود، إذ تبدو حالة العقلانية التدميرية هذه نتاجاً لأزمة العقل الكوني، ومنه العقل العربي والإسلامي، إنها تتويج لهزيمة العقل العربي القومي لمسببات معروفة، وإن كان يرتكز - هذا العقل - على عاطفة القوم التي لملمت شتات الأمة لزمن مضى، وتتويجاً أيضاً لهزيمة العقل الوطني بعد تحلُّل الدولة الوطنية الهشَّة في العالم العربي، وكذلك هو التتويج الحقيقي لهيمنة اغتراب الإنسان عن (أصله) كإنسان نحو حضور جهوي زائف قوامه النَّظر المشدود إلى ذات - هذا الإنسان - بأنها جهة عرقية، جهة مناطقية، جهة دينية - مذهبية فقط، حتى كان خروج الإنسان عن أصله الذي له كـ (إنسان) وبالاً عليه عندما سقط في فخ العقلانية التدميرية الجهوية التي يقودها اليوم (بطل الإفناء)، بل (بطل الانقتال) الذي صار همَّه إفناء وجوده وغيره بأبشع صور الإبادة. لقد توسَّلت العقلانية التدميرية مبادئ العقل اللاهوتي بتأويلية تحريفية للمتن الدِّيني، خصوصاً أنها رجعت إلى مبادئ العقل التأويلي التكفيري، وهو عقل ضار منذ صدح بخطابه (أبو حامد الغزالي) في كتابه (تهافت الفلاسفة)، الذي كفَّر الفلاسفة وهم صوت العقلانية الكبير، ومنْ سار على نهجه وركبه تالياً من فقهاء الخراب والتدمير باسم العقيدة الدينية الإسلامية، وهو إشكال يقتضي حله بتفكيك وتقويض هذه التأويلية المريبة، وتحرير الباعث اللاهوتي من حمولات تفسيرية تراكمت على أصله النقي حتى صارت عمليات قتل الإنسان تتم بمقتضى تلك التأويلية اللاهوتية الفاسدة. وليس بعيداً عن ذلك، استثمار دُعاة التدمير الإفنائي للعقل الأداتي الذي أمسى يتوسَّل التقنية التجريبية المحدثة في قتل الإنسان وإبادة حياته بشكل منحرف عن مسار التقنية الأصل ورسالتها الإنسانية بوصفها ولدت من أجل إطالة حياة الإنسان لا قطعها وإنهائها على نحو بشع. إن صور هذا التكريس الإفنائي الذي تمارسه العقلانية التدميرية، إنما هو تكريس لا عقلاني (Irrational) باتت صوره مهيمنة ما يلقي على عاتق الفقيه والفيلسوف والمفكِّر والمثقف والفنان مهمة جوهرية لتفكيك هذا التكريس وتقويض انحرافه، وهو ما يتطلَّب تجديد زاوية النظر ضمن تفكيرنا بالذهاب إلى عقلانية نقدية (Critical rationalism) بديلة، عقلانية نقدية إنسانية تفكِّك خطاب العقلانيات التدميرية بالانفتاح النَّقدي عليها لإعادة العقل العربي، والعقل الإسلامي، والعقل القومي، والعقل الوطني، والعقل اللاهوتي، والعقل الأداتي، إعادة كل هذه المفاعيل إلى أصلها النقي قبل أن تتراكم عليها الحمولات الأيديولوجية، فالعقل العربي قوامه الإنسان بخصائصه، وتلك الخصائص ما وجدت مغلقة على نفسها، فهي ذات أصل تواصلي، وعملية تحجيرها في بوتقة معينة تعني قطعها عن عالم بشري مشترك. وهنا لا يختلف العقل القومي عن العقل السابق، فهو عقل لا بدَّ أن يكون تواصلياً كما هو شأنه في تجارب باكرة له قبل أكثر من ألف وخمسمئة عام، منذ تجربة مجتمع (الحيرة) وسط العراق قبل الإسلام. والعقل الوطني هو الآخر لا بدَّ أن ينخرط في دروب تصفيته مما علق به من تعامل منفعي سوَّغ لهزيمته. كذلك العقل اللاهوتي الذي ما وُجد من أجل نفي الإنسان إنما لإحيائه، لاهوت شأنه الانفتاح على الإنسان لا حجبه وحشره عنوة في دياجير الظلام. أما العقل الأداتي فيجب تنقيته مما تراكم عليه من تداول سافر لما أمسى أداة لتصفية الشعوب والأمم، فلا بد من إحياء غايته الإنسانية التي وجد من أجلها. يبقى العقل هو (العقل الطبيعي)، وهو خاصَّة بشرية، لذلك نقول بـ (عقلانية إنسانية) تنفذ إلى ما تفكِّر فيه كمعطى بشري، (تفكِّك) بقدر ما (تقوِّض) التراكمات التي تحرِّف وعي الإنسان عن أصله وجوهره الإنساني بوصفه إنساناً، وتلك مزية تسوِّغ لنا وصفنا لها بـ (النَّقدية). ولهذا، يضع العقل الإنساني النقدي المسافة واضحة بينه وعقلانيات ميتافيزيقية شتى ابتدأت مع أفلاطون ولم تنته عند رينيه ديكارت، عقلانيات ظلت، وعبر قرون، تناور سؤال الحقيقة وتخاتله، وتركن سؤال الموجود انتصاراً للماورائي وليس حتى للوجود، وتعلي من شأن العقل على حساب الجسد البشري، وتتغنّى بالفكر على حساب الواقع اليومي، وتسعد بالمفهوم حدّ عبادته على حساب مصائر ما يجري وما يحدث. ينطلق منهج العقلانية الإنسانية النَّقدية من وعي حالة ما يجري وما يحدث بوصفه خرقاً سافراً لقيمة العقل البشري في أصله، وخرقاً مضاعفاً لقيمة الإنسان بوصفه إنساناً، وهو منهج تفكيك لمقدّرات العقلانية التدميرية عبْر استقراء تأريخ حضورها التداولي السَّلبي في المجتمع، وتقويض حمولاتها التأويلية التي تراكمت غيلة على مبادئ العقلانية الأصيلة (العقلانية الإنسانية) التي لا بدَّ أن تكون عقلانية نقدية دائماً، بحيث لا يبارحها (النَّقد) كفاعلية معرفية تقويمية تجعل من الإنسان أصلها الجوهري، الإنسان الفعلي وليس الإنسان الأعلى أو المتفوق، فالإنسان المتفوِّق هو الكائن النَّقدي بأصله الإنساني، وهو الكائن الأعلى بإنسانيته، الإنسان المخلص لإنسانيته التي هي سمته وصفته وجوهره ودربه للعبور صوب حرية العيش التواصلي المسالم. هكذا، تبدو العقلانية الإنسانية النَّقدية رؤية ومنهجا، فهي رؤية كونها تؤتي الإنسان مكانته بعقله الذي له بوصفه خاصته الإنسانية، فلا عقل من دون إنسان، ولا إنسان من دون عقل، وبهذا التلازم يمكن دفع كل ما لا إنساني ولا عقلي خارج إطار الوعي البشري، الوعي التاريخي والإنساني. كما أن العقلانية الإنسانية النقدية تبدو منهجاً يتوسَّل وعي حالة ما يجري وما يحدث على نحو نقدي يفكِّك التطرُّف البشري تمهيداً لإزالته، ويقوِّض جُملة الحمولات المؤدلجة التي ينسجها الإنسان حول كيانه وذاته حتى يغتربا عن أصليهما الإنسانيين صوب العدم. العقلانية الإنسانية النَّقدية هي ذهاب العقل البشري إلى الأصل الإنساني لـ (الإنسان) بوصفه الكائن العاقل بذاته لا بغيره في حدود وجوده النسبي الذي له.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©