الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

تونس الخضراء مدينة آمنة ونافذة على الحداثة

تونس الخضراء مدينة آمنة ونافذة على الحداثة
19 أكتوبر 2007 02:51
ذهبت إلى تونس كسائح وهو البلد الذي طالما حدَّثني عنه الأصدقاء بكثير من الإعجاب· لابد لي من الإقرار أولاً بأنني فوجئت بطيبة الشعب التونسي التي كانت العلامة الفارقة الأولى أو الانطباع الحسن الأول كما يقال· أما الانطباع الآخر والذي يمكن أن يتلمَّسه المرء بسهولة فهو الأمان والسلم الأهلي في الشارع· لخَّص لي أحد سائقي التاكسي في مدينة المهدية (بناها عبدالله المهدي مؤسس الدولة الفاطمية) الوضع في تونس حين قال: للمواطن التونسي الخيار بين الجامع والبار، أن تختار الجامع فأنت حر، ولكن بشرط أن لا تثير مشاكل تعرِّض الآخرين للأذى· وإن اخترت البار فأنت حر، ولكن شرط أن لا تزعج الآخرين· بدا لي حديث سائق التاكسي، رغم الاختزال الواضح فيه، أقرب إلى الحقيقة؛ إذ إنني لم أصادف في كل المدن التونسية التي زرتها ما يخالف رأي سائق التاكسي، بل لمستُ ما يعزز قوله؛ فالفتيات يرتدين الملابس الحديثة في آخر صيحاتها، ويسرن في الشوارع جنباً إلى جنب مع الشبان دون أية مضايقة· بالمقابل بوسع المرء أن يرى بعض الشبان الملتحين وهم قلة على أية حال أو الذين يرتدون الملابس التقليدية، ولكن بدون أدنى مؤشر على التطرف أو المبالغة· الأمان في تونس شيء حقيقي وهي المرة الأولى التي أشعر فيها إنني لست مضطراً إلى تفقد جوازي وحقيبتي كل خمس دقائق· والملفت في الأمر إنني لم أر الكثير من رجال الشرطة في الشوارع على العكس من الكثير من بلداننا العربية التي تغص شوارعها برجال الأمن الذين يخيفون الغريب أكثر من اللصوص· الشوارع المؤثثة شوارع تونس ضيقة ولكنها مرتبة ونظيفة ومؤثثة بصفوف من الأشجار دائمة الخضرة، وقد شعرت بسعادة بالغة حين تلمَّست ذلك صديقتي الهولندية، وأبدت إعجابها بهذا التنظيم· أما المنازل فأغلبها مبني على الطراز الأندلسي الجميل، حيث الأقواس والمقرنصات والأعمدة المخروطية والنوافذ المقوَّسة المشبَّكة بالحديد· ولأن تونس بلد بحري، فأن ألوان المنازل والمباني تحاكي لون البحر، وأحيانا تتماهى معه إلى درجة الانصهار، فيبدو الأفق ممتداً بشكل لانهائي· المجتمع التونسي مجتمع شاب بامتياز، وقلة فرص العمل تجعل الكثير من الشبان يفكِّرون بالهجرة ككل الشباب في العالم العربي· في الباص العمومي الذي نقلنا من مدينة المهدية إلى مدينة سوسة التي بدت بعيدة للغاية برغم أنها لا تبعد سوى سبعين كيلومتراً· أثار حضورنا في هذا الباص فضول بعض الشبان والشابات فأخذوا يتكلَّمون معنا· ولعل ما أثار فضولهم أكثر هو أنني عراقي وأتكلم اللغة العربية· تحدثوا في البداية عن العراق المحتل ومحنة الإنسان العراقي، وبعد ذلك عن هولندا وإمكانية السفر إلى هناك وفرص العمل· ولكنني تحدثت معهم بصراحة شديدة وقلت لهم إن البقاء في البلد أفضل بكثير من التغرُّب والتشرُّد في أوروبا التي لم تعد ترحب بالعرب والمسلمين بالتحديد· تسمّى تونس بتونس الخضراء وهي خضراء بالفعل إذا عرفنا أنها مزروعة بما يقرب من ستين مليون شجرة زيتون يأتي زيت الزيتون في المرتبة الثانية من الصادرات بعد الثروة السمكية والتمور بالدرجة الثالثة· إذن أشجار الزيتون في كل مكان تذهب إليه ولا تكاد تخلو مدينة مهما كانت صغيرة من معصرة للزيتون· البرتقال أيضا تصادفه في كل مكان وبوفرة عجيبة دفعتني إلى معرفة سعره فكان ستين سنتا أي ما يعادل نصف دولار· سوسة من المفارقات أن تونس تفتقر إلى وساط نقل حديثة تواكب عصر السرعة والتقنية· فليس هو بالبلد الفقير ولا يفتقر إلى الخبرات والإمكانيات· عندما ذهبتُ من مدينة المهدية إلى مدينة سوسة وهي ثالث أكبر مدينة في تونس استقللت الباص العمومي، واستغرقت الرحلة ساعتين وربع الساعة بينما المسافة لا تتعدى سبعين كيلومترا · لقد كان الباص يتوقف في كل قرية ومدينة يمر بها· وبحساب بسيط فأن رحلة من هذا النوع لن تستغرق أكثر من ساعة في الظروف العادية لو توفرت خطوط نقل حديثة ومباشرة· معنى ذلك أن المواطن يخسر كل يوم ساعتين ونصف فقط في الطريق· في طريق العودة بحثت عن وسيلة أسرع من الباص فقالوا استقل القطار أو المترو كما يسمونه فكانت النتيجة مشابهة، إذ أن هذا المترو يتوقف أيضاً كل خمس دقائق· والأكثر مفارقة إنه يواصل رحلته إلى مدينة مونستير قبل أن يلتف عائداً إلى مدينة المهدية· في مدينة سوسة، وهي مدينة جميلة ونظيفة للغاية، لم أجد سوى مكتبة واحدة هي مكتبة قاسم· وعندما كنت أسأل بعض المارة كانوا يرشدونني إلى محلات لبيع القرطاسية·! المعروف أن تونس تقيم في كل سنة عدداً من المهرجانات الثقافية المهمة وفيها أسماء لامعة لمفكرين وكتاب وشعراء· فلماذا هذا الشح في المكتبات؟ الصحف العربية لم أجد لها أثراً في تونس·! ومن المفارقات أيضاً إنني كنت أسأل بعض الباعة في الأسواق باللغة العربية، وكانوا يجيبونني بالفرنسية فلا أفقه منها شيئاً· وعندما كنت أسألهم عن اللغة الأولى في البلد كانوا يقولون: العربية طبعاً· بالمقابل، وهنا تكمن المفارقة الحقيقية، أنني ذهبتُ مع صديقتي لنركب الخيل على الساحل، كان السائس يرجوني بأن أردِّد له بعض الأبيات الشعرية العمودية، وكان يضحك بقوة وهو يشير إلى صديقه ويقول: اسمع هذه هي اللغة العربية الحقة·· لم أكن أفهم ما كان يدور بينهم؟ قلت في البداية إنني فوجئتُ بطيبة الشعب التونسي، ولكي أؤكد هذه الحقيقة التي جعلتني أشعر بالسعادة أروي هذه الحكاية القصيرة، ففي الفندق طرقت العاملة باب الغرفة من أجل تنظيفها، وكلمتني بالفرنسية، فقلت لها: إنه يمكنها أن تتكلَّم بالعربية، فسألتني وهي تضحك: هل أنت عربي؟ من أين؟ قلت من العراق فرحبت بي بكل ما تستطيع، وقالت لابد من أن تزورنا في البيت، سيفرح إخوتي بوجودك، وأصرَّت على ذلك بشدة، فشرحتُ لصديقتي الأمر وذهبنا· وكانوا أعدوا لنا طبقاً تقليدياً هو ''الكسكس''، ولم يكن الحوار إلا عن فلسطين والعراق· هذه هي المرَّة الأولى التي أزور فيها بلداً عربياً لا يعرف أهله ثقافة الانتحار أو ثقافة العنف· وبما أن إسرائيل ومعها بعض العرب وغير العرب تريد غلق النافذة الوحيدة إلى الحداثة في العالم العربي، وأعني بذلك لبنان، أدعو الجميع لزيارة تونس للإطلاع على تجربتها الحديثة دون أن ننسى طبعاً التمتُّع بجمال الطبيعة والبحر والخضرة وتلمس طيبة الناس هناك·
المصدر: تونس
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©