الأحد 5 مايو 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

«بعيد للغاية وقريب جداً» يلامس عذابات أحداث 11 سبتمبر

«بعيد للغاية وقريب جداً» يلامس عذابات أحداث 11 سبتمبر
13 فبراير 2012
كيف يمكن لطفل في التاسعة من عمره أن يتعامل مع مأساة فقدانه لوالده، وكيف يمكن له أن يلغي فجأة ومن دون مقدمات كل التفاصيل المبهجة الذي جمعته بأب حنون هو أقرب إلى الصديق أو الرفيق الروحي الذي لا يمكن مجرد التفكير في غيابه النهائي والأبدي..؟ هذه الأسئلة الوجودية المقلقة والشرسة والمتجاوزة لوعي الطفولة المتفتحة لتوّها على الحياة، قدمها المخرج البريطاني المبدع ستيفن دالدري في فيلمه الجديد بعنوان “بعيد للغاية وقريب جدا” والمشارك في المسابقة الرسمية للدورة الثانية والستين من مهرجان برلين السينمائي. (برلين) - مشاركة فيلم “بعيد للغاية وقريب جدا” ستكون دون شك لديها فرصة وافرة للفوز بإحدى الجوائز المهمة في هذا المهرجان العتيد، خصوصا لما اشتمل عليه الفيلم من بلاغة بصرية مدهشة، ومعالجات مشهدية فاتنة لمتواليات الفقدان والموت، وما يتبعها من خسارة ذاتية مشتبكة مع الحزن حد الرهافة والذوبان والنزوح المطلق نحو أحلام اليقظة ومتاهاتها الفائضة. مشهد غرائبي الفيلم مقتبس من رواية بذات العنوان للكاتب جوناثان فوير، وشارك بتنفيذه أدائيا الممثل توم هانكس في دور الأب، وساندرا بولوك في دور الأم وتوماس هورن في دور الطفل والذي قدم دورا مميزا ولافتا ومعبرا بقوة عن أحاسيس الصدمة والهذيان والجرح الداخلي المتناوب بين ضفتي الشك واليقين، وادخار الأمل لما هو عصي وصعب ومستحيل إذا تعلق الأمر بضراوة الواقع، وبشروطه المجحفة. يستهل الفيلم بمشهد غرائبي بدا مسكونا بملامح متشظية وضبابية، مع موسيقى مصاحبة ترتحل نحو حزن متشكل بهدوء في كادر هلامي يتضمن جسدا ساقطا من السماء وكأنه يتهاوى في السديم، وينجرف نحو نهاية حتمية لن نتعرف على حجمها وصداها المأساوي إلا من خلال المشهد التالي الذي يرصد مجموعة من الأشخاص وهم يودعون شخصا عزيزا عليهم، بينما نرى الطفل أوسكار وهو يراقب هذا المشهد الجنائزي من بعيد ومن دون أن يجرؤ على التواصل مع الآخرين أو الاقتراب من جسد الميت المسجي في مرقده الأخير. غربة وعزلة وانطلاقا من هذه اللقطة التي يتنكر فيها الطفل لفكرة موت والده، سيقودنا الفيلم نحو متاهته البصرية الهائلة ليقول لنا في النهاية وبوضوح تام، إن التداعيات والقصص والآلام التي خلّفتها هجمات الحادي عشر من سبتمبر في العام 2001 ستتواصل لزمن طويل، ما دام هناك أقرباء وأصدقاء لضحايا هذه الهجمات، وما دامت هناك حروب وأزمات وكوارث في هذا العالم المبتلى بالصراعات الأيديولوجية، والأفكار العدائية والمتناقضة. يقارب الفيلم هذه الإشكالية من وجهة نظر خاصة جدا ولكنها تمس الخسارات المشتركة لكل البشر وفي حيز يبدو متشابها ولصيقا بمعاني الغربة والعزلة والتوحد الذي يعيشه كل من فقد عزيزا أو قريبا كان في وقت ما حاضرا ومتجسدا أمامه. وفي معالجة سينمائية هي الأجود والأنقى تعبيرا عن المخاضات الدرامية لأحداث الحادي عشر من سبتمبر، يقدم المخرج دالدري ما يمكن أن نسميه “العزف المنفرد على وتر المأساة”، ويأتي هذا التفرد بسبب غوصه في التفاصيل الخفية والمتوارية التي يخزنها ضحايا الهجمات في دواخلهم، في وقت كانت فيه معظم الأفلام التي تناولت هذه الهجمات تتوسل الشكل المباشر والخطابي وحتى العاطفي المقحم والخاوي من أي نبش وتحليل واسترسال في هواجس وأفكار الضحايا. اكتشاف رائع استند الفيلم برمته على القدرات المبهرة والطاقة الديناميكية المذهلة للممثل الناشئ توماس هورن الذي يقدم أول أدواره السينمائية في هذا العمل، وكان بمثابة اكتشاف رائع من قبل المخرج لهذا الممثل الصغير والموهوب بالفطرة، حيث استطاع أن يجسد شخصية الطفل الذي يتمتع بذكاء بالغ، والذي يفسر العالم من حوله اعتمادا على خياله المحض والمليء بالأحلام والابتكارات والتفوق الذهني الذي يتجاوز وبمراحل ما يمتلكه أقرانه القريبين منه في السن، وكانت لعلاقته الرائعة مع والده دورا في تنمية هذه القدرات وتأجيجها، ومن هنا فإن فقدانه المفاجئ والمفجع لهذا الأب سيضعه في دوامة من الشكوك وعدم التصديق والرهان على إمكانية عودة والده إلى المنزل في أية لحظة. ولكن وبعد مرور سنة على غياب والده الذي كان محاصرا في إحدى أبراج مانهاتن أثناء الهجمات، يقوم الطفل بدخول غرفة والده للمرة الأولى والتي لم تجرؤ حتى والدته على دخولها، وهناك يكتشف وجود مفتاح في مغلف مغلق وعلى ظهر الغلاف توجد كلمة واحدة فقط هي “بلاك”، ويبدأ المشوار الهذياني المرهق والشيق انطلاقا من اللغز المحيط بهذا المفتاح، ويشرع الطفل في البحث عن كل الأشخاص الذين يحملون لقب “بلاك” ويعيشون في مدينة نيويورك، وهو بحث مضن دون شك، ولكنه سيفتح أمام مشاهدي الفيلم مساحة جمالية وسردية هائلة تتضمن الكثير من القصص والحالات الإنسانية المكبلة بأوجاعها وأسرارها في مدينة اعتادت على الدوام أن تضع متاريس مادية ضخمة تفصل بين المشاعر الإنسانية لسكانها، وتدفعهم إلى قلب العزلة الموحشة والهمجية والتي تبدو فيها نيويورك من الخارج وكأنها مكتملة وناجزة ومنتمية لشرط الحداثة والمعاصرة. اللغز والمفتاح ينقاد الطفل أوسكار وبغريزة داخلية جامحة نحو مغامرة روحية تنطوي على الكثير من الإضاءات والإحباطات، ويتعرف على جدته المرتبطة بقوة مع ماضيها وذاكرتها، كما يتعرف على جده الأبكم الذي يتواصل معه من خلال الكلمات المكتوبة على الأوراق التي يحملها الجد أينما ذهب، والذي يساعده للبحث عن سر ذلك المفتاح الغريب، ومع مرور الوقت يزداد إيمان الطفل أوسكار بأن هذا المفتاح سوف يكشف له عن التركة أو الإرث الذي خبأه له والده كمفاجأة مفرحة، ولكنه غادر الحياة قبل أن يبوح له بالسر، ورغم النهاية الغريبة والمفاجئة للفيلم ولرحلة البحث الماراثونية عن لغز المفتاح، إلا أن الصندوق الذي يفتح المخرج مغاليقه في خاتمة الفيلم، سوف يكشف للمشاهد قيمة وأصالة وجموح المغامرة الحياتية التي نعيشها جميعا، بغض النظر عن شكل وملمح ما ينتظرنا في نهاية الطريق، لأن أصل العيش وأصل الحياة هو البحث عن خلود اللحظة ذاتها وليس عن ما سبقها أو ما يليها، فمرارة الذكريات يجب ألا تنسينا بهجة الحضور والمشاركة الآن وهنا، كما لا يجب أن تدفعنا “الفوبيا” أو القلق نحو هواجس معتمة تتعلق بما هو قادم في المستقبل، أو بما تخبئه الأيام في مجهولها البعيد والغامض والذي لا يمكن لنا أبدا أن نجعله ذريعة لإفساد متعة اللحظة الحالية العارمة والمتوهجة فينا.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©