الأحد 5 مايو 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

سركون بولص·· صاحب السلال الفارغة غير الشعر

سركون بولص·· صاحب السلال الفارغة غير الشعر
27 أكتوبر 2007 02:03
اتصلت به بعد عودتي من كولومبيا مباشرة فقال إن الطبيب الذي يشرف على علاجه شخص ذكي وهو بصدد تركيب نوع من الأمصال التي تقوم بامتصاص الأملاح الزائدة من الجسم وسوف ينتهي كل شيء قريبا ، قلت له : حسنا ، بعد المراجعة الأخيرة للطبيب أريد منك أن ترسل المخطوطة بسرعة لأن الناشرة الهولندية تسأل عنها كثيرا وتريد أن يظهر ديوانك قبل نهاية هذه السنة، هذا ما اتفقنا عليه وبعد ذلك لم يعد يرد احد على الهاتف، ذهب سركون بولص من جديد إلى مكان لا يعرفه أحد كما حدث ذلك قبل أربعين عاما عندما غادر بغداد إلى دمشق بدون أوراق رسمية ولا أموال وسيرا على الأقدام، ثم بعد ذلك إلى بيروت والتيه أخيرا خلف المحيطات· حوار بالعربية قبل ثلاثة أشهر فقط كان يقف على قاعة المسرح الملكي في مدينة روتردام وهو ينزف قصائده نزفا ، نصوصا جعلت الجمهور الهولندي يقف على قدميه ويصفق له أكثر من عشرين دقيقة، وبعد أن انتهى من القراءة جاءتني الناشرة والشاعرة الهولندية هنريته فاس وطلبت مني أن أقدمها له فطلبت منه أن تصدر له ديوانا باللغة الهولندية، ثم سارعت إلى المترجم كيس نايلاند الذي ترجم بعض النصوص إلى الهولندية واتفقت معه على المباشرة بالترجمة حال وصول النصوص، السريان والعرب والكرد العراقيون الذين حضروا مهرجان روتردام الشعري كانوا يحيطون به مثل قديس جاء ليخلصهم من غربة طويلة بوصفه سيد هذه الغربة وعارف صحاريها وبحارها وبردها ، كانوا يحدثونه بالسريانية وهو يرد بالعربية ويعتذر عن الدعوات الكثيرة التي يتقدم بها محبوه الذين لم يتركوه حتى في صالة الفندق بعد منتصف الليل · أفق مذهول كان متعبا ولكنه تعب الكريم، وكان سقيما طوال حياته التي شاخت على حين غرة بداء اسمه العراق ولم تمنحه اية فرصة إضافية ، هو الذي منح الآخرين كل شيء وبقيت سلاله فارغة ، فلم يكن كذلك قبل أربع سنوات في لاهاي ، لم يكن أبدا كذلك حينما سهرنا إلى ساعة متأخرة في بيت احد المحبين ، ولم يكن كذلك حين التقينا في الرباط عام 2000 ، فقد كان جموحا بعيني صقر استوقفته إحدى الجميلات الجسورات في الشارع وأربكت حركة السير والشعراء والمارة في وسط المدينة ، قالت له بكل جسارة : أنت جميل وساحر وأربكت المكان والناس ، والشعراء ظلوا ينظرون إلى عينيه المفتوحتين على أفق مذهول ، قال سوف ابقى في المغرب من أجل هذه المرأة المدهشة ولكنه كان محكوما بالنفي يغادر المسرات، لم يكن كذلك أبدا حين عاد للمرة الأخيرة الى بغداد قبل واحد وعشرين عاما من اجل أن يحمي جان دمو من برد بغداد ويقدم له سترته الثمينة وورقة من فئة خمسة وعشرين دينارا ذات الأحصنة الثلاثة ، قال لي انه يريد أن يودع أباه الذي يرقد على فراش الموت، لم آت لرؤية بغداد فبغداد ماتت منذ إن غادرتها مجبرا· إكسير الألم قال لي يومذاك انه يريد أن يرى هذا المجنون '' دمو'' مرة أخرى ، المجنون الذي عاد في اليوم التالي إلى فندق المنصور وقد استبدل سترة سركون بولص آخر الليل ،ولكن سركون الكريم لم ينزعج من ذلك، بل تألم لأنه رأى الخراب في عيني جان دمو الذي يختزل المشهد العراقي كله، لقد صمت كثيرا في ذلك اليوم ، تألم كثيرا وذهب في اليوم التالي ليدفن والده ويرحل من جديد إلى مكان لا يعرفه أحد· لم يكن منشغلا بأي شيء سوى الألم ، كانت له حياة قديس مركبة على هيئة شاعر يجوب البراري والمدن المهجورة من اجل إكسير لهذا الألم الذي أصبح الخبز اليومي له وللناس الذين تجشم من اجلهم هذه المهمة التي كان مدفوعا إليها دفعا كقدر غير مردود، في قصيدة قصيرة عنوانها نبي يقول : ''اجمع نفسي/ عارضا وجهي للبرق/ وانأ أهذي بانتظار أن تتركني/ الموجة/ على شاطئ مجهول ، مقيدا/ إلى حجر'' وفي مكان آخر يسترجع معاناته الشخصية التي انتهت الآن بموته في غربته الغريبة حين تتكرر المأساة التي عاشها هو قبل أربعين عاما اذ يستمع إلى حكاية لاجئ عراقي وصل توا إلى المنفى الذي لا يعرف عنه شيئا ولا يعرف ماذا سينتظره هناك: ''اللاجئ المستغرق في سرد حكايته/ لا يحس بالنار عندما تلسع أصابعه السيجارة/ مستغرق في دهشة إن يكون هنا/ بعد كل الهناكات : المحطات والمرافئ/ دوريات التفتيش ، الأوراق المزورة ···/معلق من سلسلة التفاصيل -/ مصيره المحبوك كالليف/ في حلقاتها الضيقة/ ضيق البلاد التي/ تكدست على صدرها الكوابيس'' · شاشة خلفية اغرب ما في سركون بولص الذي كان الموت يعيش معه في كل تفاصيل حياته الصغيرة انه عندما يريد أن يكتب عنه ، يجعله متراجعا دائما مثل شاشة خلفية تنطبع عليها الأحداث· وغالبا ما يكون مشهد الموت في شعره بطيئا وتسبقه مقدمات تنذر به برغم انه لا يكتمل في النصوص ، بل يبقى إيحاء ودلالة تتوقف قبل إن تصل إلى الذروة وكأنه بذلك يريد تجاوز هذه اللحظة من أجل عبور الزمن دون المرور بها: ''في وسط الساحة/ سقط الرجل على ركبتيه/ هل كان متعبا إلى حد/ أن فقد القدرة على الوقوف ؟/ هل وصل إلى ذلك السد/حيث تتكسر موجة العمر النافقة ؟/ هل قضى عليه الحزن بمطرقة يا ترى ؟/ هل كان اعصار الألم ؟/ ربما كانت فاجعة لا يطيق على تحملها احد ؟/ ربما كان ملاك الرحمة / جاء ببلطته الريشية عندما حان له إن يجيء / ربما كان الله أو الشيطان / في وسط الساحة / سقط الرجل فجأة مثل حصان/ حصدوا ركبتيه بمنجل'' · يسقط الرجل على ركبتيه ولكنه لا يسقط نهائيا فقد تأتي لحظة أخرى تمكنه من القيامة مرة أخرى ، وكما هو واضح في نهاية القصيدة فإن هذه اللحظة قد تكون أكثر قسوة من الموت '' مثل حصان حصدوا ركبتيه '' فهي حالة بين موتين ، موت مؤجل وموت ناقص، واستخدام الحصان هنا لها دلالات كثيرة، فالحصان كما هو معروف رمز للشموخ والجمال والقوة ولكن بدون سيقان يتحول كل هذا الكبرياء إلى رماد، والأكثر من ذلك إن ما يتبقى هو الحطام وفي هذه الحالة يكون الموت حلا لسلسلة الآلام التي لن تتوقف، هنا تكمن براعة سركون التي جعلته شاعر متفردا ونسيجا وحده·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©