السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

العراق بين قبضة حديدية وحرب ثلاثية!

العراق بين قبضة حديدية وحرب ثلاثية!
29 أكتوبر 2007 03:24
مشكلة العراق الحالية لا تنبع في رأيي من حكامه الذين يقبضون على زمام السلطة السياسية والاقتصادية والعسكرية، وإنما تنبع من المساطر! نعم·· تلك المساطر التي يستخدمها الطلاب والرسامون· فالعنف الدائر في العراق -وهذا ما قد يبدو غريباً بالنسبة للبعض- ليس له علاقة بالصراع بين الشرق والغرب، ولا بين المسيحية والإسلام، ولا بين السنة والشيعة، وإنما هو عنف له علاقة بالمساطر· وهذا هو السبب الذي يدعوني إلى القول إن العراق يجب أن ينقسم إلى ثلاث دول منفصلة متميزة عن بعضها: دولة سنية وأخرى كردية وثالثة شيعية· فالذي حدث هو أنه منذ قرن من الزمان تقريباً أشهر راسمو الخرائط الاستعماريون الأوروبيون مساطرهم، التي قد تبدو غير مؤذية في الظاهر، وانهالوا على الحدود -على الورق بالطبع- تقطيعاً وتمزيقاً، وشكلوا ليس فقط حدود العراق الحالي ولكن حدود دول الشرق الأوسط بأسرها؛ ولم يقتصر دور تلك الأداة البسيطة على خلق دول، ولكنها خلقت إلى جانب ذلك مشاكل مقلقة لا حصر لها· فإذا ما أمسك أحدنا بخريطة للعالم وبحث عن كافة النقاط الساخنة في العالم- أي تلك المناطق التي تحتدم فيها الصراعات- فسوف يجد أن كل تلك المناطق تتصف بحدود مستقيمة مرسومة بالمسطرة، يتركز معظمها في الشرق الأوسط وأفريقيا· في رأيي أنه لا توجد دولة واحدة نمت نمواً طبيعياً عبر التاريخ، لها حدود مستقيمة باستثناء الولايات المتحدة وكندا؛ ولكن يجب علينا ألا ننسى أن رسم تلك الحدود في تلك الدولتين كان جزءاً من عملية تاريخية، اشتملت على تقسيم للأراضي وتجميع للمستوطنين الأوروبيين المتشابهين داخل حدود معينة بعد القضاء على سكانها الأصليين· بشكل عام تتعين حدود الدول بالتضاريس، وهذه الخطوط عادة ما تكون متعرجة وملتوية، كما أنها لا تأخذ شكلها النهائي وتستقر وتترسخ إلا على مدى مئات السنين من الصراعات والهجرات والتنقلات البشرية، إلى أن يتم في النهاية استقرار جماعات ذات روابط عرقية ودينية ولغوية وثقافية داخل حدود منفصلة، لأن أعضاء تلك الجماعات يريدون أن يستقلوا بأنفسهم ولا يريدون أن يعيشوا بين جماعات مختلفة عنهم· إن ''بلاد ما بين النهرين''- كما كانت تسمى حتى فترة قريبة في التاريخ- لم تكن بلداً واحداً أبداً، فهي لم تكن مثلاً بلداً واحداً أثناء قرون السيطرة العثمانية على البلدان العربية، لأن السلاطين العثمانيين أدركوا أن سكانها المختلفين عرقياً ودينياً ومذهبياً لا يرغبون في العيش في نطاق دولة واحدة، لأن ولاءهم أصلاً إما للعائلة أو للعشيرة أو للقبيلة أو المذهب الديني، وبعد هزيمة تركيا في الحرب العالمية الثانية، احتل البريطانيون تلك المنطقة، وقرروا إنشاء دولة جديدة وأطلقوا عليها اسم ''العراق''؛ ومنذ إنشاء تلك الدولة ظلت تشهد بانتظام عنفاً عشائرياً وعرقياً ودينياً استمر حتى اليوم· لقد أثبتت التجارب التاريخية أن المجموعات المختلفة عرقياً ودينياً ومذهبياً ولغوياً وثقافياً، يمكن أن تتعايش مع بعضها في حالة واحدة فقط، وهي حالة وجود حاكم قوي يستخدم أسلوب القبضة الحديدية لإرغام مثل تلك المجموعات على العيش معاً، مثلما كان الأمر على سبيل المثال في يوغسلافيا تحت حكم الزعيم التاريخي ''جوزيف بروز تيتو''، وما حدث في يوغسلافيا يعني أن الحاجة تستدعي في مرحلة من المراحل -وهي حقيقة مؤسفة للغاية- أن يتم خوض حروب من أجل حسم الأمور على الأرض، ولكن يمكننا الآن رؤية محصلتها المفيدة في الخريطة الحديثة لتلك المنطقة، حيث نشأت دول مستقرة داخل حدود لم تتخذ شكل الخطوط المستقيمة، وإنما كانت غالباً خطوطاً متعرجة ملتوية؛ أما المناطق التي لا تزال يوجد بها جماعات عرقية ودينية مختلفة تعيش داخل حدود واحدة- كما هو الحال في كوسوفو- فإن حالة التوتر والغليان لا تزال مستمرة· وفي العراق، فإن تلك البلاد لن تشهد سلاماً واستقراراً إلا إذا ما تم ترك القوى التاريخية كي تلعب دورها، وفي الحقيقة إن هذه العملية التاريخية قد بدأت بالفعل في كردستان العراق، التي لا تشهد عنفاً طائفياً ولا تقطيع رؤوس كغيرها من المناطق· ومما لا شك فيه أن حدود تلك الدولة الكردية التي لم تولد بعدُ لن تكون مستقيمة، ولا مرسومة بالمسطرة، كتلك التي رسمها البريطانيون في بدايات القرن الماضي، وإنما ستكون خطوطاً يُراعى فيها أن يكون السكان الذين يعيشون بداخلها مرتبطين بروابط لغوية وثقافية ودينية وعرقية، وليس لديهم الكثير مما يمكن أن يحاربوا من أجله إلا من أجل تأمين الاستقلال فقط· إن الحل الطويل الأمد في العراق في رأيي يتمثل في ترك القتال الدائر هناك يأخذ مجراه ويتطور إلى حرب ثلاثية الاتجاهات تدور من أجل الهوية الوطنية والاستقلال القومي؛ بعد أن يتحقق ذلك الهدف في هذه المنطقة القديمة من مناطق العالم، فإنه يمكن عندئذ التفكير في مفهوم الديمقراطية والسلام الذي سيحل فيها حتماً بعد أن يتم حل مشكلة تلك الحدود المصطنعة المرسومة بالمسطرة الاستعمارية؛ وعندها يمكن للمجتمع العراقي والمجتمع الدولي- كما هو مأمول- أن يعيشا في عالم أكثر استقراراً وسلاماً مما هو عليه الآن· أستاذ تاريخ وسياسات الشرق الأوسط في جامعة شيلر الدولية- ألمانيا ينشر بترتيب خاص مع خدمة كريستيان ساينس مونيتور
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©