الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

غنائم معرض الكتاب

غنائم معرض الكتاب
28 فبراير 2018 02:16
هل يعقل أن يمر معرض الكتاب في العاصمة الاقتصادية والتكنولوجية للمغرب من دون أن تزوره؟ عيب، مستحيل، معاذ الله. إنه بالنسبة لي مناسبة لعيد سعيد واحتفال بهيج وليس فقط معرضا للكتاب. ينبغي أن تعيش الرحلة بكل جوارحك لكي تفهم ما أقول. أستيقظ صباحاً باكراً وأركب القطار لكي أستمتع بمناظر المغرب على طول الطريق الفاصل بين القنيطرة والدار البيضاء مرورا بسَلا والرباط العامرة وتمارة والصخيرات وبوزنيقة والمحمدية: تلك المدينة المباركة اسماً ومعنى. ثم عندما تصل إلى نهاية المطاف، أي محطة الميناء في الدار البيضاء هل تطلب سيارة تاكسي لكي تقلك إلى مكان المعرض؟ أبداً.. لا. الازدحام شديد وأفضل شيء هو أن تركب قدميك وتتجه صوب البحر. وبما أنني من أكبر المشائين فإن هذه المسافة الكبيرة تبدو لي مزحة صغيرة.. وعندما تصل إلى مكان المعرض هل تدخله فوراً؟ أبداً لا. سوف أتبرك أولاً بمسجد الحسن الثاني ثم أتقدم في رحابه شيئاً فشيئاً حتى أطل من علٍ على الكورنيش والبحر المحيط. آه، ما أجمل الاطلالات الرائعات! عندئذ تنفتح لك أبواب الجنة على مصراعيها. فالجامع الشهير يكاد يضع قدميه في البحر. عندئذ تتنفس الصعداء وينفرج عنك الهم والغم وينشرح الصدر.. ويقال بأنه أكبر جامع في أفريقيا وأن منارته أعلى منارة في العالم أو من أعلاها على الأقل. بعد أن تشبع من كل ذلك تدخل إلى معرض الكتاب. لحسن الحظ فان الأمطار كانت غزيرة هذه السنة والطبيعة غناء، فيحاء. وبالتالي فعلى مدار الطريق لا ترى الا البساتين الخضراء والمراعي والمروج. وهل أجمل من مناظر المغرب وروائح المغرب وعطور المغرب؟ أحب هذا البلد بكل ما فيه ومن فيه من بشر وشعب وضوضاء وصور وعلامات ورموز. هل قرأتم كتاب رولان بارت عن اليابان: «إمبراطورية العلامات»؟ المغرب أيضاً إمبراطوري وله تاريخ مجيد طويل عريض. وربما كان أجمل شيء يفرح القلب هو منظر الخراف والأبقار وهي ترعى بكل نهم ذلك العشب الأخضر الذي أمنته لها وفرة الأمطار. وعندما تراها من نافذة القطار تشعر بالرضا والسعادة. اللهم لا جفاف! وربما تذكرت عندئذ أنك كنت راعياً في طفولتك الأولى ما بين السابعة والثالثة عشرة عندما كانت أمك ترسلك لتسريح البقرة الوحيدة والعزيزة على قلوبنا جميعا. وكانت بقرة رائعة، هولندية، من أجمل ما يكون. وفي الصباح الباكر قبل أن تشرق الشمس بوقت طويل كانت أمي توقظني (بصعوبة) من غفوتي العميقة لكي ترسلني إلى المراعي المحيطة بالقرية. وكنت أشعر، والبقرة ترعى العشب الأخضر بكل جشع، بأن الطبيعة كلها تتنفس من حولي وتستيقظ رويداً رويداً. الورود تتفتح، والحشرات تزحف، والطيور تغرد، وأنت وحيد تماماً في أحضان الطبيعة. والسكينة من حولك. وبعض الرهبة والخوف أيضا. ولا أعرف لماذا لم يأكلني ذئب أو وحش. وفجأة تطل الشمس فتضيء الكون كله باشراقة واحدة.. ولا تزال البقرة ترعى وترعى غير عابئة بما يحصل حولها. ولا تعود بها إلى البيت إلا وقد انتفخ ضرعها وامتلأ بالحليب. وهكذا تعود فخوراً بنفسك بعد أن أديت مهمتك على أكمل وجه. وكم تشعر بالسعادة عندما ترى أمك وقد ارتسمت علائم الرضا على وجهها الملائكي المنور. وهل أفضل من رضا الأم؟ «الجنة تحت أقدام الأمهات» كما يقول الحديث النبوي الشريف. وأما الآباء فمسألة أخرى.. لكن بعد كل هذه الديباجة الطويلة (أو لزوم ما لا يلزم كما يقول المعري) دعونا ندخل في صلب الموضوع. لماذا ذهبت إلى معرض الكتاب؟ ليس فقط للاستمتاع بأجوائه المحببة وإنما بحثا عن الكتب الجديدة. وأعترف بأنني عدت هذه المرة بصيد ثمين. سوف أكتفي هنا بتعدادها سريعاً وراء بعضها بعضاً لكي أعود إليها لاحقاً في مقالات منفصلة ومطولة. ثناء على المنحوسين أول كتاب اشتريته وفوجئت به هو للإعلامي الفرنسي التلفزيوني الشهير: باتريك بوافر دارفور. بصراحة كنت أعتقد أنه شخص خفيف متطفل على الأدب والفكر والكتابة ليس إلا. كنت أقول بيني وبين نفسي: هذا الرجل الذي حقق نجاحاً منقطع النظير على شاشات التلفزيون الفرنسي لا يمكن أن يكون أكثر من ذلك. ما علاقته بالثقافة أو الفكر أو حتى الكتابة؟ فإذا بي أكتشف العكس. هذا الشخص له علاقة بل وأكثر من علاقة. والسبب أنه مجروح من الداخل ككل الكتاب الحقيقيين الذين يتحدث عنهم. فابنته (سولين) العزيزة جدا على قلبه انتحرت بشكل مرعب عندما رمت نفسها تحت عجلات الميترو بتاريخ 27 يناير 1995. وكانت في ربيع العمر: 20 سنة فقط! ولم ينس ذلك أبدا. ولم يقم من تلك الضربة حتى الآن. وبالتالي فوراء كل النجاحات المادية والمعنوية وأكاد أقول الأسطورية التي حققها هذا الصحفي على مستوى باريس وفرنسا كلها يكمن في شخص مفجوع يعرف معنى العذاب. ومعلوم أنه صديق للزعماء والقادة الكبار ويتعامل معهم من موقع الند للند. ويعيش حياة بورجوازية غنية لا ينقصها شيء. ومع ذلك فقد ألف كتابا كاملا عن المجروحين أو المفجوعين أو الفاشلين في الحياة بشكل أو بآخر. وعنوانه الدقيق: «ثناء على الكتاب الملعونين أو المنحوسين». فلماذا كرس لهم كل هذا الاهتمام وهو الإنسان المرفه الناجح الذي ينتمي إلى علية القوم وجماعة الاليزيه والشانزيلزيه؟ من بين هؤلاء الكتاب المفجوعين أو المدمرين من الداخل نذكر: بودلير، وفيرلين، ورامبو، وديستوفسكي، ونيتشه، وعشرات الآخرين. هل الله موجود؟ أنتقل الآن إلى كتاب آخر كنت أبحث عنه منذ زمن طويل دون أن أجده. أكاد أقول بأنه كان يقض مضجعي لأنني لم أطلع عليه حتى الآن. وبصراحة ما كنت أحلم مجرد حلم بأني سأجده في معرض الكتاب. كنت أقول بيني وبين نفسي: عندما أعود إلى فرنسا سوف أشتريه وألتهمه فورا. ولكن الدار البيضاء مدينة عملاقة وفيها كل شيء. ومن حيث لا تتوقع تخرج لك بالمعجزات والخرافات. هذا الكتاب الضخم هو لعالم اللاهوت السويسري الشهير: هانز كونغ. كم فرحت عندما فاجأوني به وقدموه لي لقمة سائغة. وعلى غلافه تجد ماذا؟ لوحة فان غوخ الشهيرة: «الليلة المقمرة أو المرصعة بالنجوم» 1889. فعلاً إنها هدية ما كنت أحلم بها حتى في المنام. أقول ذلك وبخاصة أن هانز كونغ من أحب المفكرين إلى قلبي على الرغم من أنه رجل دين. والسبب هو أنه فيلسوف عميق بقدر ما هو رجل دين كبير واسع الآفاق. إنه عملاق الفكر الديني في وقتنا الحاضر. وهو رافع الشعار الشهير: لا سلام في العالم بدون سلام بين الأديان. وإنه ليحترم دين الاسلام كل الاحترام ويعرف قدره وسماحته وعظمته كل المعرفة على الرغم من أنه رجل دين مسيحي بل وكاثوليكي. ولكن هل هو فقط رجل دين؟ هل هو منغلق داخل جدران السياجات الدوغمائية اللاهوتية القروسطية التكفيرية؟ أبداً لا. معاذ الله. وهنا يكمن الفرق الكبير بينه وبين مشائخ التعصب والظلام المنغلقين كليا داخل جدران مذاهبهم وطوائفهم والمهووسين بتكفير الآخرين وإباحة دمائهم. هذا ناهيك عن إطلاق الفتاوى اللاهوتية التي تبيح التفجيرات والاغتيالات وإشعال الحروب الأهلية الطائفية في كل مكان. ما علاقة هؤلاء بجوهر الدين أو بالفهم الصحيح المستنير لرسالة الاسلام السمحاء؟ ولكن حتى الآن لم نذكر عنوان الكتاب؟ انه بكل بساطة: «هل الله موجود؟ توضيح لمسألة الله في الأزمنة الحديثة». تصوروا الوضع: عالم دين ويطرح هذا السؤال! ولكنه لا يطرحه إلا لكي يثبت في نهايته أن الله موجود. وقد برهن على ذلك بعد أن أفحم كبار فلاسفة الإلحاد من فويرباخ إلى ماركس إلى نيتشه وفرويد. نعم إنه «يناطح» كبار فلاسفة الحداثة ويخرج من المعركة منتصراً! من يقدر على ذلك إلا هانز كونغ؟ انه كتاب ضخم عملاق يتجاوز الألف ومائتي صفحة. وهو يستعرض تاريخ الحداثة الفلسفية من أولها إلى آخرها. وهذا رجل دين! إذا كان الدين هكذا حراً طليقاً، فلسفياً عميقاً، فيا مرحباً بالدين والمتدينين.. الجنَّة الناقصة أنتقل الآن إلى الكتاب الثالث الذي كنت أحلم به منذ فترة وأشعر بالحاجة الماسة للاطلاع عليه. وهو للمفكر الشهير تودوروف بعنوان: «الجنة الناقصة: فكر النزعة الانسانية في فرنسا». من يريد الاطلاع على فكر جان جاك روسو بكل تناقضاته الشهيرة التي حيرت العقول فليقرأ هذا الكتاب. فهو يحلها لي ولكم. وله الشكر الجزيل. ومعلوم أن تودوروف معجب بروسو كل الاعجاب ويعتبره أكبر مفكر انساني في الغرب كله. ثم يختتم كتابه بالدفاع عن الأخلاق والحب. وما معنى حضارة بدون أخلاق أو حب؟ كل الحضارات الكبرى نهضت على أكتاف الحب: حب الخير والعطاء والجمال. لا إنجازات عظيمة بدون حب عظيم. يتساءل تودوروف بشكل مباشر أو غير مباشر: ما معنى حضارة بدون نزعة انسانية حتى ولو كانت عملاقة تكنولوجيا وصناعيا بل حتى ولو كانت تبهر الأبصار؟.. الكتاب إذن يشكل نقدا عميقا لنواقص الحضارة الغربية وأكاد أقول لتشوهاتها وانعدام النزعة الانسانية فيها. قليلاً من التواضع إذن أيها الغرب المتغطرس! قليلاً من الانحرافات والتشوهات والشذوذات! تحية إلى تزفيتان تودوروف الذي وصل يوما ما إلى باريس عام 1963 قادماً من بلغاريا فاستطاع أن يفتح عاصمة الأنوار ويتفوق على مثقفي فرنسا أنفسهم في عقر دارهم. مذكرات والآن أنتقل إلى كتابين من كتب المذكرات. وهي من أحب الكتب إلى قلبي وأكاد ألتهمها من دون توقف على مدار الساعة حتى تنتهي. الأول للمستشرق الشهير مكسيم رودنسون. والثاني للمستشرق الشهير أيضا أندريه ميكيل. وبالتالي فهي وجبة شهية تغريك بالمطالعة وتجذبك غصباً عنك. أخيرا كنت أتمنى لو يتسع المجال للتحدث عن بقية الغنيمة التي اقتنصتها وعدت بها ظافراً من معرض الدار البيضاء. ولكن حتما سيرد ذكرها على مدار الشهور المقبلة بشكل أو بآخر. ذكريات شخص هامشي عدت من المعرض بكتابين من كتب المذكرات، وهي من أحب الكتب إلى قلبي وأكاد ألتهمها من دون توقف. أحدهما للمستشرق الشهير مكسيم رودنسون يحمل عنواناً شاعرياً تقريباً: «ذكريات شخص هامشي». تصوروا هذا الشخص الذي بلغ أعلى الدرجات الأكاديمية والذي كانت تستقبله القيادات والزعامات وتطلب نصيحته يعتبر نفسه هامشياً. وفي نهاية المطاف من نحن؟ نحن لا شيء حتى ولو بلغ بنا العمر عتياً، ورأينا ما رأيناه وفهمنا ما فهمناه. مات عن 89 سنة في مرسيليا عام 2004. الزمن صدف وإشارات يحمل كتاب أندريه ميكيل أحد كبار الاختصاصيين بالعالم العربي وثقافته وحضارته عنواناً غريباً تصعب عليّ ترجمته. لنقل بأنه: «الزمن يتوقف على بعض الإشارات والمصادفة واللقاءات: مذكرات».. وفيه يتحدث عن أشياء كثيرة من بينها لقاءاته بشخصيات عصره من أمثال عالم الاجتماع الكبير بيير بورديو والمؤرخ الشهير فرنان بروديل. وكذلك لقاءاته مع غورباتشيف وميتران والبابا بولس السادس، وسواهم من الزعماء والقادة. الخ.. حتماً هناك أشياء كثيرة تهم القارئ العربي في هذه المذكرات لأحد كبار الأكاديميين المختصين بألف ليلة وليلة وشعر المجنون والجغرافيا البشرية للعالم الإسلامي وبقية جواهر تراثنا الكبير.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©