السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

فنّ لا يقبل الاختراق

فنّ لا يقبل الاختراق
28 فبراير 2018 02:21
ثمّة من الفنّ ما يقبل التأويل لأنّه يقوم على إدارة سياسات المعنى داخل ثقافة ما، وثمّة من الفنّ ما لا يقبل التأويل ولا التحمّل ولا الاختراق لأنّه يقوم على الصدمة والإزعاج وزعزعة ما يحدث.. إلى هذا النوع الثاني من الفنّ تنتمي تنصيبات الفنانة الفلسطينية منى حاطوم. فنّ انزياح من حقل الجميل إلى حقل المريع بحيث يقع تجسيد ذاكرة الأرض على نحو لا يقبل التحمّل ولا يقبل الاختراق. خارج حدود الجغرافيا الحزينة تنصّب منى حاطوم أرضها الممنوعة حيثما حطّت الرحال بلندن أو ببرلين أو بباريس، محتلّة بأعمالها وتنصيباتها الفنّية قاعات عرض العواصم الغربية، معلنة بحدّ الحرف أنّ فنّها إنّما هو «أداة غزو» لهذه العواصم التي تواطأت الدول فيها على أرض فلسطين وأفرغتها من شعبها. أيّة ذاكرة سيتكبّد الفنّ أوجاعها حينئذ؟ وما مستطاع أعمالها الفنّية في تجسيد الجغرافيا الهشّة «للوطن المتكرّر في المذابح والأغاني»؟ (العبارة لدرويش). تنصيبات منى حاطوم هي تنصيبات للذاكرة «من خارج المكان»، تفكّك خطابات الهويّة وتخترع أشكالاً مغايرة من الهويّة الهجينة صلب ضرب استثنائي من التجربة الفنّية التي تجعل من الفنّ ورشة للتفكير ولزعزعة بديهياتنا حول الواقع.. بخرائطه الجغرافية الهشّة، بتاريخه الثقيل.. وهي تكتب عن العمل الفنّي قائلة: «أريد للعمل (الفنّي) أن يكون له حضور شكلي قويّ.. ويقدّم حالة من الغموض واللامبالاة.. أريد أن أخلق حالة يصبح فيها الواقع مسألة مشكوكاً فيها». هويّة مسلوبة وانتماء مفخّخ تمثّل أعمال منى حاطوم ورشة فنّية من الطراز العالميّ لفنّانة تعيش هويّتها صلب سرديات المنفى، فهي الفلسطينيّة الأصل، بحيث تنتمي إلى عائلة أصلها من حيفا وقع تهجيرها ضمن خطّة الاستيطان الصهيونية سنة 1948، ولدت في بيروت وعاشت فيها لاجئة، وهاجرت إلى بريطانيا، حيث منحت الهوية البريطانية. فهي الفلسطينية التي ولدت قسراً خارج أرضها، وهي البريطانية التي مُنحت اضطراراً هويّتها من طرف الدولة نفسها التي أقرّت اقتلاعها من أرضها. بأيّة ذاكرة ستواجه حاطوم العالم حينئذ؟ هي التي تعيش المنفى مرّتين: بهويّة مسلوبة وبانتماء مفخّخ؟ أيّة سرديّة للأرض في المنفى؟ ذاكرة أرض لا يمكن اختراقها عنوان تترجمه أعمال منى حاطوم في دلالات عديدة متناقضة ومتشابكة معاً، فهي ذاكرة الوطن الممنوع وطن الأسلاك الحديدية الشائكة المعلّقة من السقف إلى الأرض كما في تنصيبة عنوانها «ما لا يقبل الاختراق» (2010) وهي أرض الأراجيح المستحيلة كما في تنصيبة «مع وقف التنفيذ»، ووطن الزنزانات كما في «زنزانات» وأرض القضبان كما في «حكم مخفّف» وأرض الأقفاص كما في «اضطراب داخلي» والأرضيات الملغّمة كما في «تيار خفي» والأثاث المنزلي الصاعق، كما في «المصعوق».. لكنّ ما لا يمكن اختراقه لا يمكن السطو عليه.. وربّما لا يمكن أيضاً أن نقيم فيه بأيّ شكل. وقد يصحّ القول أنّه بوسع دولة ما أن تسطو على أرض ما لكن ليس بوسعها أن تحتلّ ذاكرة شعبها، وليس بوسعها السيطرة على قلوب أهلها. لأنّ الذاكرة يقع حفظها في الفنّ كتعبيرة رمزيّة عميقة للمخزون الروحي الخاص بشعب ما. سبينوزا الفيلسوف الهولندي قال ذات نصّ: «بوسعكم السيطرة على أجساد البشر لكن ليس بوسعكم السيطرة على عقولهم».. لكنّ محمود درويش كتب ذات قصيدة يقول: «كلّ قلوب الناس جنسيّتي... فلتسقطوا عنّي جواز السفر». أمّا منى حاطوم، فقد أتقنت حفظ ذاكرة الأرض في أعمالها الفنّية بأن جعلتها غير قابلة للاختراق. لا أحد بوسعه النفاذ إلى تنصيباتها الفنّية لأنّ ما تنصّبه ملغّم أو صاعق أو محاصر بالقضبان والأسلاك الشائكة. ماذا تهرّب حاطوم في أعمالها؟ إنّها تهرّب ذاكرة لا تقبل الاختراق هي ههنا ذاكرة كل الأجساد التي هجّرت أو سجنت أو قتلت، هي ذاكرة الدماء والمنازل المهجورة.. هي ذاكرة لا تقبل الاختراق لأنّها محاصرة، ولأنّها مقسّمة بحدود اتفاقيات ظالمة، ولأنّها ذاكرة القضبان والسجون ومنع الجولان والجدران العازلة والأسلاك الشائكة. هذا ما ترجمته أعمال منى حاطوم الفنّية في فنّ الأداء أو الفيديو أو التنصيبات. وهي أعمال صُمّمت بثقافة جماليّة استثنائية اتّخذت من الفنّ الاختزالي أو فنّ الحدّ الأدنى والفنّ المفهوميّ حقل تجريب خاصّ جدّا، كما كان للسريالية وللفنّ الجاهز على طريقة مارسيل ديشن بصمات صريحة في أعمالها. ويمكننا القول إنّ فنّ حاطوم إنّما ينخرط ضمن ضرب من الجماليات أو فنّ المريع، حيث تقول: «إنّ أفضل الأعمال الفنّية هي التي تصدمنا». إدوارد سعيد كتب عن أعمالها ما يلي: «من الصعب تحمّل فنّ منى حاطوم.. لكن من الضروريّ مشاهدته بوصفه فنّاً يحاكي بصورة ساخرة فكرة الوطن المفرد».. أيّ معنى لهذه المحاكاة الساخرة أو ما يسمّيه أيضاً ادوارد سعيد بفنّ الانزياح؟ كيف صار العالم كلّه وطناً غريباً؟ درويش يكتب: «من يحترف القتل هناك... يقتل الحبّ هنا». ومنى حاطوم تكتب: «لغة المنفى واحدة على امتداد التجربة الإنسانية». وهنا علينا التنبيه إلى أنّ الأمر يتعلّق بتصوّر خاصّ جدّا للعمل الفنّي يستقي مفرداته من موقف ما بعد كولونيالي، يرى أنّ الاحتلال الصهيوني ليس حكراً على فلسطين فقط بل هو سياسة استعمارية امبريالية عالميّة. وهي في ذلك تنتمي بفنّها إلى جيل كامل من المهجّرين الفلسطينيين ومن أبناء المنفى الذين وقّعوا سرديّات المنفى من خارج المكان على طريقتهم وأشهرهم هو إدوارد سعيد. العالم كله أرض محتلة الفنّ هنا يدين العالم لا بوصفه متواطئاً مع مكنات الاحتلال، بل لأنّ العالم كلّه أرض محتلّة.. هنا تدين أعمال منى حاطوم السياسات الاستعمارية التي حوّلت العالم كلّه «إلى وطن غريب»، وطن الأقفاص والقضبان والأرضيات الملغّمة. وهذا يظهر من خلال تنصيبات ضخمة تحت عناوين صادمة من قبيل «حكم مخفّف» (1992) و«بقعة ساخنة»(2006) و«ما لا يقبل الاختراق» (2010) و «مع وقف التنفيذ» (2011). وهي كلّها تنصيبات قائمة على فكرة الأقفاص التي ولدت من تأثّرها الشديد بواقعة المراقبة الدائمة التي هي سمة المجتمعات الغربية بعامّة، وهي في ذلك قد ترجمت فنّياً كتاب المراقبة والمعاقبة لميشال فوكو الذي تأثّرت به كثيراً. وتقول منى حاطوم «إنّ المراقبة المستمرّة هي أوّل ما لفت انتباهي حينما جئت إلى انجلترا». من أهمّ تنصيبات حاطوم التي تعبّر عن التصور ما بعد الكولونيالي تنصيبة «ما لا يقبل الاختراق». وهي عبارة عن مكعّب من الأسلاك الشائكة التي تتدلّى من السقف بحيث يستحيل الدخول إليها أو اختراقها. وهذه التنصيبة في الحقيقة هي ضرب من المحاكاة السالبة الساخرة لتنصيبة صمّمها الفنّان الفنزويلي عيسى رفائيل سوتو بعنوان «ما يقبل الاختراق» (1957). وفي هذا العمل نشاهد مربّعاً كبيراً من البلاستيك الذي يشبه غابة اصطناعية يمكن للمشاهد النفاذ إليها والتنزّه داخلها كما لو أنّ العمل الفنّي هو حضن جميل أو حديقة فنّية لاحتضان الزائرين. وفي هذا العمل يقترح رفائيل سوتو تصوّراً جديداً للعمل الفنّي بما هو تجربة جسدية وفكريّة ذات بعد إنشائي غريب. وتكريماً لهذا الفنّان، صمّمت منى حاطوم تنصيبتها بعنوان «ما لا يقبل الاختراق» وأنجزت بذلك نوعاً من التحويل لوجهة نظر الفنّ نحو ممارسة أكثر غرابة وأكثر قدرة على خلق الصدمة والاستفزاز، وبعثرة تصوراتنا حول العالم وحول رسالة العمل الفنّي نفسه. يتعلّق الأمر بضرب من الفنّ السالب القائم على التناقض وإزعاج المشاهد وتوريطه ضمن لغز العمل الفنّي وطابعه الإشكالي والمفاهيمي السريالي معاً... إنّ الفرق بين تنصيبة عيسى رفائيل سوتو «التي تقبل الاختراق» وتنصيبة منى حاطوم التي «لا تقبل الاختراق» هو الفرق بين من يعيش داخل المهجر ومن يعيش صلب المنفى.. فالمهجر مكان آخر يشبه المكان الذي ينتظرنا هناك في الديار، حينما تكون الديار في أمان، أمّا المنفى فهو ضرب من المكان المضادّ حيث نفتقد إلى الديار التي لم تعد قادرة على انتظارنا.. لذلك هو مكان غير قابل للاختراق لأنّه سالب ومزعج وشرس ومجروح. منى حاطوم تشعرك أنّها اقتلعت من أرضها، وأنّه بالتالي قد وقع السطو على شكل الحياة الذي يخصّها.. فالوطن هو شكل العالم الذي نحتاجه وحينما نفقده يسقط عالمنا في اللامعنى. الفنّ هنا لا يصلح لاستعادة الماضي، بل فقط لإنصاف الذاكرة. اختراع المكان لكنّ الأرض تولد من جديد في المنفى... مع تنصيبة الحديقة المعلّقة بوسعنا اختراع المكان من جديد، وبوسعنا أيضاً اختراع شكل جديد لعالم قابل للسكن. وبالفنّ بوسع الأرض أن تولد خارج خرائط الجغرافيا الحزينة. تولد الأرض في الحديقة المعلّقة من قاع الذاكرة الشرقية القديمة، وتولد من أكياس الرمل المكدّسة فوق بعضها بعضاً، ملقيّة هناك في ركن من المكان القصيّ، وتولد من بين ثقوب الأكياس الصغيرة، حيث ينمو العشب..ههنا التناقض صلب العمل الفنّي بين من جهة أكياس مكدّسة على بعضها في هيئة أشياء متروكة، كما لو كانت قد خرجت عن دائرة الاستعمال، ومن جهة أخرى، ينمو العشب ويواصل الحياة والزحف غازياً أمكنة جديدة وخالقاً الأرض مرّة أخرى، هازئاً في براءة النبات من كلّ الحروب والخرائط السخيفة، وسياسات الاستيطان والاستعمار العالميّة. يقول إدوارد سعيد «إنّه من المستحيل نهائيّاً استعادة الماضي من القوّة الهائلة المرتّبة ضدّه على الطرف الآخر: إنّه بالإمكان فقط إعادة موضعته على هيئة شيء دون اقتراح نتيجة، أو مكان نهائيّ». وتقول منى حاطوم «أنا لا أحاول أن أمثّل هذه القضايا في فنّي، لكنّها تظهر فيه هناك لأنّها جزء من تنصيبي». الفن وهشاشة العالم إنّ تنصيبات منى حاطوم تنصّب ذاكرة لا يمكن اختراقها لأن لا أحد بوسعه احتلال ذاكرة الشعوب. هكذا تنصّب أعمالها الأرض وتستدعي العالم كي يكون هناك: شاهداً أو سائلاً، مصدوماً أو ساخراً، سيّان عند الفنّان لأنّ الأهمّ هو إحضار عالم جديد حيثما يسقط العالم القديم.. فيكون الفنّ حينئذ كما كتب عنه الفيلسوف الألماني المعاصر هيدغر كأوّل من وقّع مفهوم الأثر الفنّي بما هو ينصّب عالماً ويفتح أرضاً، «تهيئة للمكان وتسريح للمدى الوسيع» حيثما تضيّق علينا سياسات الاستعمار القبيحة عالمنا. كلّ الأمكنة تولد إذن مرّة أخرى من رحم العمل الفنّي، هي تولد مجروحة ومشوّهة، لكنّها تولد أيضاً متمرّدة ومزعجة. يولد المكان مرّة أخرى من يتم المكان القديم، ومن صمت المعادن، ويولد من اندفاعة العشب وزحفه الذي لا يُقاوم.. يقول هيدغر مرّة أخرى أنّ «الفنّ يجعل العالم يُعلم».. لكن متى يكون ثمّة عالم؟ يجيبنا: «إنّ العالم يعلم حيثما نعتقد أنّنا عند أنفسنا». لكن متى نكون «عند أنفسنا»؟ حينما يتعلّق الأمر بأوطان المنفى فيضيق المكان وتُصاب أنفسنا بالوهن والهزال؟ هيدغر يكتب: «إنّه حيثما تقع القرارات الجوهريّة لتاريخنا، سواء أأخذناها أم أعرضنا عنها... ههنا يعلم العالم من جديد». لكنّ تنصيبات منى حاطوم تجيبنا على نحو مغاير: لم يعد بوسع أيّ أحد أن يكون عند نفسه لأنّ تيمة الهويّة لم تعد تكفي للانتماء إلى العالم. لأنّ «العالم نفسه - وفق عبارة رشيقة للفيلسوف الفرنسي المعاصر جون لوك نانسي- قد فقد قدرته على أن يكون عالماً».. الفنّ يقترح علينا إذن ضرب من الذوبان الهووي أو من الهويّة الهجينة التي ينحتها من أجل حراسة هشاشة العالم وقد صار كلّه وطناً غريباً. ويكتب درويش: أيها الظلام القادم إلى المدينة انهمر انهمر لأنّي أعتزم الليلة مغادرة وجهي الحافل بالحدود في اتجاه قلبي وهو المدينة الوحيدة التي لم تقع في الأسر. زعزعة وتفكيك وتشكيك تنصيبات منى حاطوم هي تنصيبات للذاكرة «من خارج المكان»، تفكّك خطابات الهويّة وتخترع أشكالاً مغايرة من الهويّة الهجينة صلب ضرب استثنائي من التجربة الفنّية التي تجعل من الفنّ ورشة للتفكير ولزعزعة بدهياتنا حول الواقع.. بخرائطه الجغرافية الهشّة، بتاريخه الثقيل. الوطن المفرد إدوارد سعيد كتب عن أعمال منى حاطوم ما يلي: «من الصعب تحمّل فنّ منى حاطوم.. لكن من الضروريّ مشاهدته بوصفه فنّاً يحاكي بصورة ساخرة فكرة الوطن المفرد..».. أيّ معنى لهذه المحاكاة الساخرة أو ما يسمّيه أيضاً إدوارد سعيد بفنّ الانزياح؟ المنفى المركّب تمثّل أعمال منى حاطوم ورشة فنّية من الطراز العالميّ لفنّانة تعيش هويّتها صلب سرديات المنفى، فهي الفلسطينيّة الأصل، بحيث تنتمي إلى عائلة أصلها من حيفا وقع تهجيرها ضمن خطّة الاستيطان الصهيونية سنة 1948، ولدت في بيروت وعاشت فيها لاجئة وهاجرت إلى بريطانيا، حيث منحت الهوية البريطانية. فهي الفلسطينية التي ولدت قسراً خارج أرضها، وهي البريطانية التي مُنحت اضطراراً هويّتها من طرف الدولة نفسها التي أقرّت اقتلاعها من أرضها. بأيّة ذاكرة ستواجه حاطوم العالم حينئذ؟ هي التي تعيش المنفى مرّتين : بهويّة مسلوبة وبانتماء مفخّخ؟ أيّ سرديّة للأرض في المنفى؟.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©