الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

صوت الألم

صوت الألم
27 ابريل 2009 03:35
أعيش حياة مؤلمة، نعم هذه هي الحقيقة بلا تزييف، من لا يقدر على سماع صوت المتألمين وحكاياتهم التي تملأ الدنيا، لا يمكنه متابعة حكايتي، ومن يريد أن يطلع على معاناة الآخرين ويتفاعل معها إنسانياً، فهو بالتأكيد سيرسل لي شحنات من التعاطف، خصوصاً إن كان فقيراً مثلي، أما إن كان من النوع الذي لا يستطيع أن يشعر بغيره، أو من النوع الذي لا يستطيع التصديق بأنه في كل بقعة من بقاع العالم، حتى وإن كان أهلها من الأغنياء، فإنه يوجد أيضاً فقراء ومتألمون بسبب الحاجة، نعم هذه هي الحقيقة التي لا يغفلها أحد، فلا يوجد مجتمع غني بشكل مطلق، فقد جعل الله سبحانه الناس درجات، كنوع من الابتلاء والاختبار، الفقير يختبره بصبره، والغني يختبره بقدرته على العطاء والإحساس بمن حوله. يمكنني القول إنني من الفئة الأولى، من الناس الفقراء المبتلين بالحاجة لغيرهم، وهي من الأمور الصعبة التي لا تتقبلها النفس بسهولة. أحمد ربي على كل حال، وما كتبت حكايتي إلا لحاجتي لتلك الشحنات الإنسانية التي تشعرني بأن هناك من يشاركني حالة الألم التي أعيشها. بلا مبالغة، يمكنني القول إن حياتي مليئة بالشقاء منذ طفولتي وحتى هذه اللحظة، لازالت المعاناة تلف حياتي بغلافها القاتم، وتترك أثرها السيء على نفسيتي. أبلغ من العمر تسعة وعشرين عاماً، ولكن من ينظر إلي يتصور أنني قد تجاوزت الأربعين من العمر، وجه متعب وجسد مهدود لكثرة ما عانيته في هذه الحياة العجيبة. والدي رجل بسيط وفقير، هجمت عليه الأمراض بعد أن تقدمت به السن، وهو معتمد على راتب الشؤون في إعالة أسرتنا الكبيرة، أمنا ونحن بناته السبع وولد وحيد، اثنتان من البنات تزوجتا هرباً من دائرة الفقر، أنا البنت الثالثة في الأسرة، تأتي من بعدي ابنتان مصابتان بإعاقة ذهنية، مما يشكل عبئاً إضافياً على هذه الأسرة، أما البنتان الأخيرتان، فهما تدرسان في المرحلة الثانوية، أما الولد الوحيد والذي ختم سلسلة الإنجاب في أسرتنا، فهو مازال طالباً يدرس في المرحلة الإعدادية. كل هذا العدد في الأسرة، ولا دخل لنا سوى معاش الشؤون، وعلى الرغم من أن البيت الذي نسكنه قديم ومتهالك ويحتاج إلى الصيانة والترميم، إلا إنه وقانا من معاناة دفع الإيجار ومشاكله، فكلما سمعنا عن مشاكل الناس الذين لا يتملكون بيوتاً، فإننا نحمد ربنا لوجود هذا الجحر البسيط الذي يسترنا. طفولة شقية على الرغم من ظروفنا المادية الصعبة، إلا أنني كنت حريصة على الدراسة، ولم أترك الوضع المادي عائقاً بيني وبين المذاكرة، فعلى الرغم من شعوري الكبير بالنقص عندما أقارن بيني وبين زميلاتي في المدرسة، فأجدهن يلبسن الملابس الجديدة، ويملكن الدراهم لشراء الحلويات والمأكولات والعصائر من مقصف المدرسة، وأنا أتفرج عليهن متظاهرة بعدم المبالاة، أحاول إخفاء جوعي، ورغبتي في أن أكون مثلهن، وكنت أحلم بأنني أملك المال لشراء الملابس الجديدة والحلويات اللذيذة، كنت على الرغم من شعوري بالجوع، أرفض أن آخذ أي شيء تقدمه لي الصديقات كي لا يظهر جوعي ولهفتي على الطعام فيسخرن مني ويستهزئن بي من وراء ظهري، على الرغم من كل تلك المعاناة، إلا أنني لم أفكر في ترك الدراسة كما فعلت أختاي من قبل، فقد قررنا عدم مواصلة الدراسة بسبب الشعور بالنقص وأنهن أقل من الأخريات من أقرانهن. الله وحده يعلم كيف يتأذى الإنسان الفقير عندما يجد نفسه الوحيد الذي يختلف عن كل من حوله وأنه وحده يعيش بشكل آخر غير الجميع، خصوصاً الصغار في السن، فهم لا يستوعبون لماذا هم ليسوا كغيرهم!! ولماذا هم محرومون من أشياء كثيرة يتمتع بها الأطفال الآخرون من حولهم!! كنت على الرغم من صغر سني مضطرة للاعتماد على نفسي، أغسل ثيابي وأكويها وأساعد أمي في إعداد الطعام، فلم يكن بالإمكان إحضار خادمة، وقد كانت هذه هي إحدى العقد التي عانينا منها، فالكل يستغرب منا!! هل يعقل أن لا توجد لديكم خادمة؟ كنت أجد بعض زميلاتي في المدرسة وكل واحدة منهن ترافقها الخادمة وهي تحمل حقيبتها المدرسية إلى داخل الفصل، والسائق ينتظرها عند الباب، بينما كنت مضطرة للسير على قدمي لمسافة طويلة، لأن الباص لا يوصل الطالبات اللواتي يسكن في المناطق القريبة، فكنت أحمل حقيبتي الثقيلة على ظهري وأمشي تحت أشعة الشمس الحارة، أو تحت المطر والرياح، وفي كل الظروف المناخية، دون أن أشتكي أو أتذمر. كنت أفكر باستمرار في أن وضعنا سيتغير، وإنني لن أقضي عمري كله وأنا فقيرة، وقد قررت أنني إذا حصلت على الشهادة فإنني أستطيع تحرير نفسي من دائرة الفقر، وقد قررت بيني وبين نفسي أن أواصل مشوار التعليم مهما كلفني ذلك، ولكن للأسف فإنني لم أستطع الالتزام بوعدي أمام نفسي، وغيرت خططي بشكل غير متوقع. لعبة القدر كان لدي ابن خالة، وهو شاب مكافح ذو شخصية جذابة ومؤثرة، يعمل بجدية وإخلاص ليعيل أهله، أمه وإخوته الأيتام، كان يعمل في الشرطة براتب لا بأس به، وهو وافد، ولكني أعجبت به وبشخصيته، ولم أتردد في الارتباط به عندما طلب يدي للزواج، نسيت كل قراراتي السابقة، ولم أفكر في ظروفه المادية، فتمت إرادة الله وتزوجنا، وبالطبع فقد سكنا في بيت أهلي كي نوفر الإيجار ونساهم في مصروف أهلي لنخفف عن والدي العبء الكبير الذي يثقله. لم يكن سهلاً مع الزواج والانشغال بالأسرة ومجيء الأطفال واحداً تلو الآخر، لم يكن سهلاً أن أستمر في الدراسة، فتركتها وأنا مرغمة بسبب تلك الظروف، كان هذا القرار هو الذي كسر طموحاتي وجعلني أعيش أفقاً ضيقاً جداً بالاعتماد على راتب زوجي البسيط، خصوصاً عندما ولدت أطفالي الثلاثة وازدادت مصاريفنا حتى ضاقت علينا الدائرة مرة أخرى وصار من الصعب تسيير الأمور المادية بشكل طبيعي، خصوصاً أن موجة الغلاء استمرت بشكل غير طبيعي في الفترة الأخيرة. وجدت أنني قد حبست نفسي بهذا الزواج داخل دائرة الفقر بشكل دائم، وأدركت أن حساباتي لم تكن مضبوطة، فقد فكرت في أن أختصر الطريق بالزواج، لأن الراتب الذي كان يحصل عليه ابن خالتي في ذلك الوقت – كان لا بأس به – وبما أنني إنسانة قنوعة، فقد اعتقدت أنه سيكفي لنعيش بشكل جيد. للأسف، كل تقديراتي كانت خطأً، فها أنذا لا أملك سوى غرفة في منزل أهلي القديم، وقد أصبحت المشاكل كثيرة، وهي تزداد يوماً بعد يوم، وقد مررت بفترات عصيبة أدت إلى شعوري بالهلاك، أيام من المعاناة والألم وأنا أرى الجميع من حولي في ظروف صعبة، ووالدي يعجز عن تلبية احتياجات الأسرة، فيساهم زوجي بما يقدر عليه، ولكن الحاجات أكبر من طاقة الاثنين، وأنا أقف حائرة وعاجزة لا أستطيع أن أفعل أي شيء للمساعدة وتحسين الأحوال، فما يكون مني إلا أن أنفرد بنفسي في غرفتي وأبكي، حتى تدهورت صحتي يوماً بعد يوم. كنت أكتم إحساسي بالقهر عن زوجي وأهلي، فلا أريد أن أزيد همومهم أو أن أثقل عليهم، خصوصاً زوجي، الذي تقع على عاتقه المسؤولية الكبرى تجاه عائلتنا وتجاه أمه وإخوته الأيتام. كان حلم مواصلة الدراسة مازال يلازمني، فحاولت العودة إلى الدراسة المسائية، ولكن عدم وجود خادمة في البيت للعناية بأطفالي أثناء غيابي، كما أن أمي قد كبرت في السن وهي غير قادرة على العناية بهم، كل ذلك منعني من مواصلة الدراسة، لذلك فقد تحطمت كل أحلامي، حلمي أن يكون لي بيت خاص بي وبأسرتي، حلمي أن يعيش أطفالي الثلاثة بطريقة أفضل مما عشته أنا، فلا يجدون أنفسهم وهم فقراء فيشعرون بالنقص والحرمان وأنهم أقل من غيرهم. الكارثة الكبرى فعلاً ما حدث كان كارثة حقيقية لنا، عندما مرض زوجي، في البداية كان يشتكي من آلام في البطن، وقد حاول تجاهلها والتغاضي عنها بتناول المسكنات والأعشاب البسيطة، ثم بدأ الألم بالازدياد، فاضطر للذهاب إلى العيادات، ولكنهم لم يتعرفوا على علته، استمر حاله في التدهور ولمدة سنتين، وهو يتحامل على نفسه ويحاول التغلب على وجعه، حتى غلبه المرض وأسقطه في الفراش لأسبوع كامل، لا يستطيع الذهاب إلى عمله، وهو يصرخ ويتألم بشكل يقطّع القلب، حرارته مرتفعة، وجسده مرتعش، أدخل المستشفى وأجريت له التحاليل الكاملة، فثبتت إصابته بخراج في الكبد، فأجروا له عملية مستعجلة لاستئصال الخراج فتحسنت حالته لفترة بسيطة ثم عادت للتدهور من جديد، وبالطبع فإن تردده على المستشفى، والعملية التي أجريت له، كل ذلك كلفنا مصاريف كثيرة، فضاقت علينا دائرة الفقر حتى كادت أن تخنقنا، وصارت الدنيا سوداء قاتمة أمامي، ولم أعد أعرف كيف أتصرف، أو ماذا أفعل، تفاقمت مشاكلنا وازدادت ظروفنا الصعبة قساوة، فلم نعد نملك شيئاً، ولم أعد قادرة على توفير احتياجات أطفالي، اضطررت للتردد على الجمعيات الخيرية لطلب المساعدة، ثم فكرت في أن أعمل بأي وظيفة مهما كانت بسيطة كي أوفر لأولادي احتياجاتهم، خصوصاً أن زوجي قد تمت إقالته من عمله بعد مرضه وعدم قدرته على العمل، فجاءت هذه الضربة القاسية كلطمه قوية كسرت ظهورنا. اضطررت لترك أولادي عند أمي المريضة لتعتني بهم وذهبت لأعمل في مدرسة خاصة في الاستقبال براتب ثمانمئة درهم، وقلت في نفسي: إنها أفضل من لاشيء، فليس سهلاً الحصول على عمل لمن لا يملك شهادات أو خبرات، فكان عملي يخفف عني شعوري بالعجز الكامل، وإنني عاجزة عن التصرف، ولكن شعوري بالقهر يدمرني، فقد تعبت من حياتي الصعبة، ومن عدم شعوري بالأمان والاستقرار، ومن خوفي على زوجي وأولادي، ومن الشقاء المستمر الذي يعيشونه، ولكن ليس بيدي فعل شيء، أيام صعبة وقاسية تمر علينا، زوجي يحتاج للأدوية والعلاج، أولادي بحاجة لأشياء كثيرة، ملابس، طعام، احتياجات المدارس، وأنا لا أدري ماذا أفعل وكيف أتصرف، فلاشيء أمامي سوى النواح على هذه السطور فلربما شعرت بعدها بشيء من الراحة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©