الثلاثاء 23 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الصعود على الهضبة الزرادشتية

الصعود على الهضبة الزرادشتية
28 فبراير 2018 02:24
فصل (الشفاء) 1 إلى (أتشكاه)(1) تنادى الرّفاق. معبد النار الخماسي الأضلاع والزوايا، والمرفوع على شبه جزيرة (أبشيرون)(2). إلى تلك الضيائية، والتي لا سبيل في الوصول إليها إلا بمجاهدة النفس والسير الشاق على الهضبة الزرادشتية البعيدة. وبشيء من الرّيبة والتردد قلت: «ولكن في رأسي ناي الغجر، لقد ثبتوا جغرافيتهم». أجاب المنادي الكبير: «وزرادشت، هو الوتد، قد ثبّت للغجر الهضبة». نهض الجميع بخفة أجساد أثيرية، وغطسوا في صخرة النفق الكبير المفضي إلى ضفة أبشيرون. 2 كانت الروح في المطر تخفق في منتصف السهوب، وعلى غير عادة غرور وحدتي، كان عليّ أن أضمّ نفسي إلى تلك الرفقة الحلزونية التي لم تستطع التعوّد على وتيرة اللهث في العالم الجديد، فعادت إلى الغابات ومتعة التجوال في المسافات القديمة، متسائلة ومحللة، تحبو على الدروب ببطء الغيمة، رغم عاصفة الآلام الجمعية الساكنة في جزيئات النفس. كان الألم هو شعلة التيسير في التأمل، وقود ذلك العبور المزهر بالإلهام. هناك، تحديداً في المسافة المفقودة من الزمن، استيقظ الغجر في داخلي، أخيراً، وراحوا يتهامسون: إلى النور، إلى الغابات القديمة، إلى الرقص في الدروب البعيدة، نقرأ كف الحياة، إلى الريح التي تسترنا.. إلى الذعر.. إلى اللانهايات المرعبة..  ودون أن أتكلم أو أنظر إلى الوراء، سحبتُ ملاءتي الحزينة على الغابات، وانطلقت خلفهم على الدروب، أغني، أصلي، أحفر قلبي على جذع الريح، وأتكوّن في السكون المطلق، كبرعم ينمو، في أول الاخضرار، في أول ربيع ينزل على الأرض، وأتساقط في النسيان، بعيداً بعيداً في نشوة طويلة. أربعون عاماً وأنا أنتظر الغجر.. كل ما أتذكره الآن، وأنا أراقب من باب البيت نسراً وحيداً، يشق فضاء السهل، يشرب من غيمة خمرية وحيدة على الجبال، غيمة تحبو ببطء اتجاه شروق الشمس على رؤوس جبالنا، كل ما أتذكره هو ذلك اللحن القديم على هضاب شبه جزيرة أبشيرون، أغنية الغجر في البرد والمطر والنار، في اللانهايات المرعبة. 3 كان الصباح، وكانت غايتنا تتبع روح النار، عبر السير في غابات طريق الحرير القديم المؤدي إحداها إلى جبال قوبستان(3)، روح زرادشت تشعل الجبال لنتدفأ، كانت روحه القطب الأعلى السابح على الحقول والبحيرات والأسطح الباردة، تستحثنا نارها على النهوض كلما تعثرنا وتساقطنا على الأرض من وخز الحزن والألم. هل رأيتم في الروح ناراً؟ سأتذكر بعد سنوات ومع الكثير من النشوة والحنين أوركسترا الروح التي اجتزنا على وقع أوتارها نساء المراعي وأكواخ القبائل الفقيرة ودبكة الفلاحين وأضرحة الأولياء الملمومة بين أحضان الغابات المقدّسة، كان لقاح السنابل يفوح، ورائحة العشب تملأ السماء التي تنضج على مهل بين أصابع الله، وفي الدروب رائحة كل الأشياء التي تنمو وتدل عليه. وبمجرد أن وطئت أقدامنا المعبد، أخذتنا النيران في نور الفكرة الأبدية المشتعلة، منذ آلاف السنين وهي تشتعل، تملأ الهضبة بالدفء والضيائية والصلاة. توضأنا بالبخور الذي انتشرت رائحته بين قاعات العبادة وحجيرات الكهنة، تحصّن بعض الرّفقاء بأوراد صلاة لم تكن معلومة بالنسبة لي، كانت لكل منا متعة مسافته الخاصة، لا أحد يتلمس سماء الآخر بآلة الكلام، وحده الصمت والبطء ينتقل، وبالألم المحمول من البلد نتجلى في فضاء الكشف والعشق والدهشة. ثم هبطنا من هضبة النار، وافترقنا كالمشاعل في مجموعات بين مفترق طريق الحرير الكبير، ذلك الطريق القديم المعتق بالسرديات والملاحم الأسطورية للقوافل وذاكرة التواصل. كلٌّ فرقة في طريق، كل فرقة في فكرة، ولم يكن فراقنا سهلاً، بعد أن تواشجت أرواحنا واتحدت، وشعّت شمس واحدة بين الضلوع. عدتُ لأختار طريق الغجر، نحو الحلقة الفضيّة الكثيفة للضباب الذي طوّق الهيكل السفلي لتلك الهضبة الأسطورية، فمحى أثر الأوتاد، فبدت وكأنها منفصلة ومعلقة في السماء. إلى البطء مجدداً، إلى زمن النسيان، نحو هضبة قوبستان. 4 تنمو الشمس، والحقول تنمو، وتغني الغجريات على مهل بين السفوح، ويتدافعن لقراءة كف أقدارنا، وفي الأفق الصخري العالي تفرد النسور أجنحتها، تتحد بطيف بلوري غامض، هل أقول بأن الأرض كانت تولد في تلك الأثناء؟ ومعي شاعران من زمن الطيور، عن مائة وليّ، يطوون الغابات، يستنطقون الأحجار والأشجار المهجورة، أتذكر أن في داخلنا انفتحت ثلاث مغارات، ولأجل المعرفة كان علينا أن نفترق. سأتذكر الله جيداً حين فتح لنا بعض أسرار الظلام. ومع أن الحياة قصيرة، كان علينا أن نسير في المغارة، وكأننا نبلغ الخلود. أما الحزن، فلازال عميقاً، نرتاده كالصلاة صبحاً ومساء. دخل الرّفاق، وبقيتُ وحدي أتلمّس صدى مغارتي، رميتُ الوقت خارجها، وفي الظلام الملموم عليّ نقلتُ إليّ الغفران والصفح والحُب الإلهي. المغارات الثلاث الموغلات في إقليم الهدأة والظلام الأليف، صارت مهوى الولادات الكبيرة بعد تأجج إيقاع الصمت وتناسل المراجعات والحوارات مع القلب. إنها الحياة المنسية، الحتف الآمن، لعله الرحم الأول، أيها الرّب، أرجوك أبقنا في الداخل، في الرعاية الأبدية، في الوحشة الهائلة، في الرّعب الأكبر للسكون، حبّب إلينا الظلام، وامنحنا الصبر على مفارقة أنوار من نُحب، الكثير من الصبر والرضى، علّنا نكتب أغنية الشفاء السرمدي التي طالما حلمنا بتأليفها. (حضرة التلألؤ) 1 .... نسينا الأيام، لم نعد نذكر في أي عام دخلنا؟ كم هو عمرنا الآن؟ ومع الزمن صارت للمغارات أبواب، ونسيتُ الرّفاق. في الأيام الأولى، ربما كل منا فكّر مرة أو مرتين وأكثر، بأن يفتح باب الغار ليسأل عن الآخر، لكن لذة النسيان أنستنا أن نفتح الباب. تركنا الغار مغلقاً. نسيتُ شكل السماء، رائحة الهواء، ما معنى الصوت؟ كيف تكون الحركة؟ ساكنة في الجمال اللامتناهي، في الوحدة الغامضة، لا أعرف ما النهاية، نسيتُ شكل البداية. كثيراً ما كنتُ أستيقظ وأتذكر أني رأيتُ في المنام نفسي داخل جوف محارة. أرى رحمها الناعم الأبيض اللامع بألوان قزحية، وأراني أتكوم وسط كل ذلك العراء الدامع باللمعان، ممزوجة بالوحدة والفراغ البعيد. غير أن المحارة على ما أحسها ليست في أعماق البحر، ولا على الشواطئ الفيروزية، ولا على ظهر (البوم) العائد بالمحار المفلوق إلى موانئ الخليج، ولم تصلها عين الغواص بعد.. فلا شيء يضخ من خارجي، لا صوت هناك غير السكون الخالد والعمق واللمعان. السكون المتدفق بالسلام، المترافق مع جدل أول حركة لي في المشهد. 2 بعد أن مرّت مئات السنين خارج المغارة (حسب تقدير كاتبة هذا النص) ، دوت صرخة عظيمة ، أمواج تهدر سقف الجبال ، شيء إلهي يحدث في الخارج ، اندلق السكون خارج الغار يغرق السطوح الباردة ، غرقت الحركة ، غرق الصوت، انفلق بياض عميق، لم يعد شيئاً يتحرك ، غير أني لا إرادياً حركتُ ذراعيّ ، كانت حركة ذراعيّ وفق فطرة قديمة سقطت في زمن بعيد وقد عادت إليّ الآن ، طرتُ نحو غابات السماء البعيدة. طرنا بين حواشي الشمس والغيوم، وحدنا من كان يشكل حراك الفطرة في السكون الغزير، وبينما نحن في غمرة ارتفاعنا وفرح طيراننا فوق بحيرات النار، سرعان ما لمحنا ذلك الفراغ، الفراغ العظيم تحت أقدامنا.. هكذا فجأة، حدثت الهاوية ثم انتبهنا إلى عظامنا، تدخل في رحم الأرض، كالبذور. ويدخل العالم والغار، وتدخل عظامي، والقصة التي لا وجود لها، في فوضى البياض العميق. 3 مع بدء زمن الغفران، أنبتتنا الأرض من جديد، صارت أغصاننا في الفوضى مع الريح تتمايل، وزارتنا أعشاش العصافير لسنوات طويلة. عرفنا حينها أن الحزن كان مستعاراً من الخارج، نابعاً من صوامع الجبناء ومغاور الخوف، يسكنها من لا يرغبون بالموت، ولا بالحياة.. فما الذي كنا نرغبه إذن، قبل أن تُقذًف بذورنا في أسافل الهضاب المطلقة، في أبعد نقطة في الأرض؟ 4 (إذا انفتح الباب، سأفرد ذراعي، وأدخل في طيّ الماء). لحظة تبصّرنا في الداخل أن شمس وجودنا هو الخيال والتنوّر، أدركنا ألا ضرورة للخروج بعد ذلك إلى النور والبحث في الغابات عن طلسم زرادشت، فقد صرنا كنزاً وبات خيالنا شعلة تحطِّم المخاوف. وعفوياً وَجَدتْ الشعلة تلك المساحات الفارغة داخل الخواء العميق لعظام الصدر. لكن الشعلة ضاقت بالعزلة، فمن طبيعتها الخاصة أن تصبح نعمة جمعيّة على كل الوجود، وتبلغ أقصى درجات التحرر والإنارة والجاذبية. كان التنوّر في الغار، هو في حد ذاته مفتاح الغار، مفتاح لحياة الظلام، كيف بوسع الظلام أن يتنوّر من جوهر ظلامه؟ هذا هو السحر، لقد كان الظلام والنور متلازمين دائماً منذ الخلق، فلا نعمة لأحدهما إلا بالتكامل مع الآخر، في الظلام يتكوّن النور، ويتغذّى النور على الظلام، فأثر النجمة في الصباح لا يُرى. كاللؤلؤة تماماً. تتغذى اللؤلؤة من نفسها داخل محيط الظلمات المحارية، اللؤلؤة في العزلة تزهر، اللؤلؤة في يمّ الظلام تضيء وتتجوهر.  إنه التلألؤ المنتشي بالنسيان. 5 منذ صدفيات الموروث والعادات القشرية، ونحن نتعلم أن نكون أحد اثنين: إما أعداءً لهذا التلألؤ، أو عبيداً له. وحين رأينا الأشجار حرّة تحيا من تلقاء نفسها، دون أن تسأل، والطيور والأنهار والصخور، ويفعل العشب ذلك أيضاً.. تذكرنا، ذلك الزمن البعيد، حين وُلِدنا ووُلِدت معنا أحاسيس عجيبة، تشدنا إلى عيش الحياة. كان فعل العيش عفوياً، حين اختفت الأنا، كنا كأوراق الأشجار، لا نسأل عن الرياح الآتية، والأرض التي ستذرنا عليها. كنا كالحالم، إذا رأى في المنام فصولاً كان فيها تمثالاً يتألم من الضرب، ثم رأى ذلك التمثال يغرق في البحر، ثم فصولاً أخرى يرى نفسه فيها أنه البحر وتسجد له الشمس، وليس بوسعه غير أن يكمل الرؤيا، تأتي الحبكات والمشاهد والصور من راوٍ عليم في العالم الآخر. لقد كان الحالم على حافة مطلة على الأبدية، لكنه سرعان ما نسيها في اليقظة. فلقد حدث وببساطة عجيبة أن غابت سريعاً في غياهب النسيان. وعاد وجهه اللامطمئن إلى مكانه الإنساني، خالياً من كل معنى أبدي. ماذا لو عشنا داخل ذلك المعنى الأبدي، لو بقينا في دوامة السيناريو الحلمي، تاركين الريح تأخذنا إلى حيث تريد في عفوية السردية الكبرى، الأبدية التي ترعانا وتتكفل لنا بالنور اللانهائي؟ 6 سأحلم في إحدى الصباحات القادمة، صباحات انتظاري في السهل المفتوح، أمام باب البيت، أني أحمل قلبي كمشعل، وأصعد به ببطء نحو تلك الهضبة البعيدة في الشمال، واختفي في الغيمة. أنت لم تصل إلى الحدود بعد، أما أنا فسأولد مع الغجر، في زمن الانتظار والهجرات والأنهار القديمة، زمن الحصاد والنعمة والشكوى. ومن المقرر أن أحبك قبل الحدود بأزمنة طويلة، منذ أن استدارت الكواكب في رحم الضباب، منذ أن كانت في البدء (نموّ ) تمور بأسمائنا في الأزل وتلد المروج والأمواج والقلق اللامتناهي. كان ثمة نداء خفي بيننا، تواطئ نجمي لعاشقين لن يلتقيا في المياه. وكان الرّب سعيداً بآثار أقدامنا المحمومة على المجرّات البعيدة، نحن لم نكن في الأرض يوماً ننتمي للحدود وخط الغضب، ولم نصدّق قصة العذاب وأسافل العالم. كنا ننظر للدروب المفتوحة، للمغارات البرزخية، والأجساد النجمية، وبحجر الصوان تشعل لي نار البراكين، فيضيء الكون، وتصقل حواف الكواكب كيما تنتقي منها خاتماً مقدساً يستدير في بُنصري.وكنتُ دون أن تعلم أنت، أحرّك بإصبعي كوكبي، وأجذب ببطء كوكبك، كي لا نقع بسهولة في الخلاء المطلق، ونتحول في النهايات الأخيرة إلى جرح قديم في السديم.  ستأتي، آلاف السنين، وأنا أحاول من جديد إعادة ذلك الحلم أمام عتبة باب البيت الوحيد في السهل الكبير، أنحتك زمنياً على هضبة الروح، داخل مغارتي، لعلك تتخطى متعباً كل الحدود وأزمنة الجاذبية، وتترك باب الأرض خلفك مفتوحاً على المياه... وتدخل مع الغجر. إشارات 1 ـ أتشكاه: معبد للنار يبعد عن العاصمة الأذريّة (باكو) 30 كيلومتراً، ويقع في شبه جزيرة (أبشيرون) حيث المكان الذي لا تنطفئ فيها روح النيران، وإنما تشتعل أبدياً وفق إحدى الظواهر الكيميائية في الطبيعة، في تلك الجزيرة تحديداً خُلِقت كيمياء النار ومُزجت بالروح حسب المعتقد، ونشأت معابد النار التي كانت موضع إجلال واحترام منذ ولادة الديانة الزرادشتية، فالنار أحد رموزها المقدسة. 2 ـ شبه جزيرة أبشيرون: (المكان الذي تحفظ فيه النار المقدّسة للأبد) حسب المعتقد القديم لدى القبائل الأذرية الساكنة في أبشيرون، ووفقاً للميثيولوجيا الإغريقية القديمة، قُيّد «بروميثيوس» بسلسلة جبال هذه الجزيرة بناءً على أمر صادر من «زيوس» كبير الآلهة، لأنه سرق النار وحملها إلى بني البشر. 3 ـ قوبستان: موطن النقوش والكهوف والرسوم الصخرية التي تكشف عن الثقافة الروحية للإنسان الأذري الأول منذ ما يزيد على 12000 سنة، ثم نُقش المزيد منها حتى القرون الوسطى.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©