الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

مشرط جراح الموت

مشرط جراح الموت
27 ابريل 2009 03:35
لم يستطع الحاج «مختار» تاجر الأدوات الكهربائية أن يضع ساقاً فوق الأخرى مثلما يفعل الأكابر وعلية القوم، لأنه بدين ويعاني من حجم كرشه والسمنة البادية على جسده كله، وعدم قدرته على الجلوس بهذه الهيئة يشعره ببعض النقص في شخصيته، بجانب انه بالكاد يستطيع القراءة والكتابة، ورغم ملايينه وثروته التي لا يعرف حدودها فإن كل ذلك لم يكن كافياً ليعوض هذا الإحساس أو يزيله خاصة اذا تحدث مع أحد الحاصلين على الشهادات العلمية العالية. ويجنح «مختار» في تلك الحالة الى إظهار إمكانياته وتفوقه المادي والمبالغة في ذلك الى حد كان يبدو معه انه يريد أن يقلل من أهمية العلم والتعليم امام المال والثراء، ويحاول أن يبرهن على أن ما يتحقق بالمال لا يتحقق بالعلم، وإن كان في قرارة نفسه يعلم أن العلم يجلب المال، ولكن المال لا يجلب العلم وهذه هي عقدته. كان ذلك كله حاضراً في رأسه عندما التقى الدكتور «غريب» الذي لم يكن مجرد طبيب بل كان أستاذاً في كلية الطب وفي تخصص نادر هو الغدد الصماء، وهذا المسمى الذي كان يقرأه الحاج «مختار» بصعوبة على لافتة النيون الكبيرة فوق عيادة الدكتور لم يكن يفهمه.. وأراد أن يلعب لعبته المعتادة في هذا اللقاء بأن يظهر ثراءه ويتحدث عن أمواله.. إلا انه وجد نفسه مثل من يضرب رأسه في الصخر، فوجئ بأن الطبيب الكبير لا تهتز له شعرة من هذه الأرقام التي يذكرها والممتلكات التي تحت يديه ولم يسل لعابه مثل الآخرين الذين كان يتحدث امامهم عنها، والسبب أن الطبيب كان سليل عائلة ثرية تملك العلم والمال معاً.. فأبوه كان أستاذاً في الطب ايضاً بل كان عميداً لكلية طب عين شمس وترك لابنه مستشفى كبيراً وعيادة في حي راق وبناية وفيلا وأموالاً سائلة.. فنشأ وفي فمه ملعقة من ذهب، لكنها لم تفسده، وواصل تفوق أبيه العلمي، وحقق مكانته، وحافظ على هذه الأموال التي ازدادت ونمت وتضاعفت الأصفار امام أرقامها في البنوك، وذلك كله جعل الحاج «مختار» يغير لهجة الكلام ويحول دفة الحديث الى الأرباح التي تدرها التجارة، وانه يستطيع أن يربح في لحظة او صفقة ما يربحه استاذ الطب في ايام، واستطاع بهذه الملاحظة أن يجذب انتباه الطبيب اليه. ولم تنته الجلسة بينهما إلا وكانا قد اتفقا على الشراكة في التجارة أملاً في المكسب الكبير. أيام قليلة وجمعهما اللقاء الثاني بعدما اطمأن كل منهما للآخر، والتقى الهدفان عند نقطة الاتفاق، وأعد الطبيب مائتي الف جنيه، وقبل أن يعطيها له كان لابد أن يضمن حقه فهو رجل متعلم وواع ويعرف الألاعيب وخراب الذمم، وليس هناك ما يمنع من إثبات حصول الرجل على الاموال كتابة حتى لو حسنت النوايا.. فهي وحدها ليست كافية.. ولم يمانع الحاج «مختار» في التوقيع على أوراق تثبت ذلك، بل رحب ووافق على أن يوقع على إيصال أمانة بكامل المبلغ وعلى ورقة اخرى بأن يسلم الطبيب نسبة كبيرة من الارباح تصل إلى خمسة وعشرين في المئة من قيمة المبالغ، وانطلق بالأموال في تجارته الواسعة. وفي اول موعد توجه بنفسه ليقدم بضعة ألوف من الجنيهات كما هو الاتفاق بينهما، وتم ذلك في الشهرين الثاني والثالث، لكن بعد ذلك حدث ما لم يكن في الحسبان.. تقاعس الحاج «مختار» عن الوفاء بالعهد المكتوب، وكلما هاتفه الطبيب خرج بالحجج الواهية وتعلل بالخسائر أو الركود.. أو أن الأموال عند العملاء، ولم يعدم في كل مرة حيلة او عذراً جديداً، وطال الانتظار بلا بادرة أمل في الاستجابة، حتى استبد القلق بالطبيب وكاد يفقد الأمل في استرداد أمواله، ولم يطمئنه إلا تلك الأوراق التي بينهما ولا يريد أن يستخرجها الآن، وأجل اللجوء إلى المحاكم كآخر إجراء، لكنه في النهاية لم يجد غير تلك الخطوة كي يستريح من هذا العناء وينهي المشكلة، وخلال عدة أشهر حصل على حكم قضائي بحبس التاجر واستعادة أمواله كاملة، وهنا اعتقد انه استرد حقوقه، ولم يعلم انه بدأ مشوار المعاناة، فلم يتم القبض على الرجل لتنفيذ الحكم، لأنه ليس حكماً نهائياً وان «مختار» قام باستئناف الحكم للمماطلة وكسب المزيد من الوقت، وتدخل أهل الخير في محاولة للصلح ودياً والتنازل عن القضية، وبالفعل جاءت ثماره وحصل الطبيب على نصف المبلغ وبقي نصفه الآخر. تكررت الأحداث مرة أخرى وصدر الحكم النهائي مؤيداً حق الطبيب في استرداد أمواله وحبس الرجل، ورغم ذلك لم يتم تنفيذ الحكم، واستمرت المماطلة والألاعيب وهو يغلي وتأكل النيران صدره ولا يستطيع أن يفعل شيئاً امام العدل البطيء الذي لا يسعف ملتاعاً، فقرر أن يتصرف على طريقته وبيديه.. رفض أن يكون لقمة سائغة بين فكي «جاهل» بالكاد يقرأ الكلمات، أعد عدته وحزم أمره.. واتصل به على الموبايل وفوجئ به يرد عليه.. أظهر له الود واصطنع المعروف.. أقنعه بضرورة التفاهم مرة أخرى.. وانه مستعد للتنازل عن نصف المبلغ المتبقي وجدولة سداد ما يتم الاتفاق عليه، ووجد الحاج «مختار» في هذا العرض المغري ما ينهي الازمة، وفي مساء اليوم التالي توجه الى الطبيب في عيادته، لم يبق فيها الا عدد قليل من المرضى تم الانتهاء من الكشف عليهم بعد لحظات، وتم إغلاق الباب ومعهما الممرض الذي كان ينتظر خارج الغرفة ويسمع السجال في الحوار الذي كان يبدو انه حول قضية معقدة لم يتم تقريب وجهات النظر فيها، واستمرت المفاوضات لعدة ساعات الى أن جاءت لحظة الحسم. وأصدر الدكتور أوامره للممرض «عبداللطيف» بالحضور ومساعدته في توثيق يدي الرجل.. وربطهما خلف ظهره وهو يستنكر هذا التصرف ويهدد ويتوعد ولم يتوقع ما حدث بعد ذلك، ورفض اي استجابة لرد الحق لصاحبه، وزاد في عناده استنكاراً واستفزازاً حتى جاءت اللحظة الحاسمة مد الطبيب يده إلى مكتبه وأخرج مسدسه وأطلق رصاصة واحدة إلى قلبه كانت كافية لإزهاق روحه.. ووجد نفسه في صف المجرمين ولابد أن يتخلص من هذه الجثة دون أن يدري به أحد، عليه أن يستخدم علمه في الخلاص من الهروب من السجن، فهو ذو علم ويجب ألا يتساوى عقله وفكره مع المجرمين السذج الذين يتركون عشرات الأدلة التي تؤكد ارتكابهم الجريمة وتدينهم ولا يمكنهم امامها الإنكار.. وبنفس المشارط الطبية التي يعالج بها المرضى والتي يستأصل بها الأجزاء الخبيثة من الاجسام. قام بمساعدة الممرض بتقطيع جثة التاجر ووضعها في بعض المحاليل الطبية والكيميائية لتشويه معالمها حتى لا يتعرف عليها أحد.. وقام بوضعها في أكياس وصعدا معاً إلى أعلى سطح البناية وأشعلا النيران في هذه الأجزاء الآدمية.. ثم حمل الطبيب ما تبقى في ثلاثة أكياس ووضعها في سيارته وألقى بكل كيس في صندوق قمامة بعيداً عن العيادة حتى لا تحوم حوله الشبهات. وفي نفس اليوم عثر عمال النظافة على هذه القطع الصغيرة من الجسم البشري.. كادت قلوبهم تتوقف من هول المفاجأة التي شلت تفكيرهم.. أبلغوا الشرطة، وتم تجميع الأجزاء التي لا تدل على شخصية صاحبها.. وبصعوبة تم التعرف عليها، لكن بعد إحصاء حالات الغياب، وقد كانت زوجة المجني عليه أبلغت عن اختفائه.. واضطرت جهات التحقيق الى اللجوء لتحليل الحامض النووي للقطع الآدمية وأبناء وإخوة التاجر، وأكدت التحاليل انها بالفعل جثته.. ولم يكن صعباً على رجال الشرطة بعد ذلك التوصل إلى القاتل، حيث إن خلافاته مع الطبيب كانت معروفة، وبمجرد زيارة للعيادة تداعت الأدلة التي تدين العقل العلمي الكبير، وأولها البواب الذي شهد بدخول التاجر الى العيادة وعدم خروجه.. وأثر الحريق على سطح البناية.. وآثار الدماء.. ثم المتهم الثاني الذي انهار من تعذيب الضمير واعترف بكافة التفاصيل، وسقط الطبيب الكبير، وسقطت نظريته، وفشلت خطته في إخفاء الجريمة والهروب منها بعد أن خرج على القانون في «سنة أولى إجرام» ونفذ الجرم بيديه.. ولم يترك العدالة تأخذ مجراها حتى النهاية.. وألقي القبض عليه، وتأكد انه لا يوجد ما يسمى الجريمة الكاملة وانه كان أقل ذكاء من أصغر مجرم.. ولم يجد مجالاً للإنكار وأحالته النيابة الى المحاكمة بتهمة القتل العمد مع سبق الإصرار والترصد والتمثيل بالجثة، وطالبت بمعاقبته بالإعدام.
المصدر: القاهرة
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©