الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

«الشّبكات الاجتماعيّة».. أو اللااجتماعية

«الشّبكات الاجتماعيّة».. أو اللااجتماعية
28 فبراير 2018 02:33
يُعد هذا العصر بامتياز عصر التكنولوجيات الحديثة. ومن أبرز خصائص هذه التكنولوجيات، ما تنشئه من عوالم افتراضية على شبكة الإنترنت العنكبوتية، وقد بلغت هذه الشبكة أقصاها بشيوع الشبكات الاجتماعية مثل «الفيسبوك» و«التويتر» و«الواتس أب» و«لينكدن»... إلخ، حتى أن الشخص الذي ليس له حساب في أي من الشبكات الاجتماعية يعتبر شخصاً غريباً، بل لعله مثير للريبة أصلاً. ومن المفترض مبدئياً أن ينتج عن هذه الشبكات قدر أكبر من التواصل والتفاعل بين الناس، على أنه من الطريف أنه بقدر ما زادت الشبكات الاجتماعية حدود التواصل الافتراضي أدت في الواقع إلى ضمور التواصل الفعلي بين البشر. فكثيراً ما تجد جماعة من الأصدقاء متجالسين في مقهى أو مطعم أو مكان عمومي ما، ولكنهم لا يتحاورون ولا يتجاذبون أطراف الحديث. وإنما تجد كل واحد منهم ممسكاً هاتفه الذكي يتأمله ويخاطب «أصدقاءه» الافتراضيين ويتفاعل مع المنشورات الافتراضية متجاهلاً من هم حوله فعلاً من البشر. بل إن الشبكات الاجتماعية، وفق بعض الإحصاءات، غدت سبباً أساسياً من أسباب الخلافات الزوجية التي قد تبلغ حدود الطلاق، وذلك لانشغال الزوجين أحدهما عن الآخر في الحياة اليومية، وفي مقابل ذلك لإغراقهما في الحوارات الافتراضية. ويمكن أن نبحث في أسباب إدمان العلاقات الافتراضية ودورها في ضمور العلاقات الفعلية. وهما وفق قراءتنا ثلاثة أسباب: فائض المتعة: العلاقات الافتراضية تفتح مجالاً للحلم أو ما يُسمى في التحليل النفسي اللاكاني فائض المتعة (le plus de jouir)، ذلك أنك حين تتعامل مع شخص فعلي تتعرف إليه، فإنك تكتشف شيئاً فشيئاً جلّ خصائص شخصيته وسلوكه وهيئته. وبمرور الوقت تقل متعة اكتشاف الجديد وتحل الرتابة محل الدهشة، ونستبدل بالمفاجأة الألفة، وفي مقابل ذلك، فإن لكل جديد لذة كما يقول الجاحظ. وهذا الجديد أو التجدد يبيحه الفضاء الافتراضي، حيث العلاقات مستندة إلى أقنعة مختلفة، وحيث التعرف إلى الآخر والإحاطة بخصائصه وسماته ليسا متاحين دائماً. ورغم ما تضمره العلاقات الافتراضية من خطر ناتج عن هذه الأقنعة، فلا يمكن أن ننكر أنها تساهم بشكل ما في إذكاء متعة الاكتشاف وإحياء لذة تلمس الغموض لدى بعض الناس. النرجسية تقوم العلاقات الواقعية على الحوار الشفوي، وهو حوار غير منظم بمعنى أن المقاطعة فيه جائزة وتَحَدُث طرف أكثر من طرف واردٌ والتلاسن وارتفاع الصوت ممكنان... إلخ. وفي مقابل ذلك، فإن الحوار الافتراضي يقوم عبر الرسائل أو عبر التعاليق المكتوبة. والكتابة، كما قال الكاتب الفرنسي جول رينار (Jules Renard): «هي أسلوب للكلام دون أن تتم مقاطعتك» (Ecrire، c’est une façon de parler sans être interrompu). وهذا الكلام المسترسل الذي تبيحه الكتابة في المجال الافتراضي يجد إلى نرجسية الأنا سبيلاً؛ لأن المرء يستطيع أن يقول أو ينشر ما يريد دون أي مقاطعة أو رقابة. ومن جهة ثانية، فإن العلاقات الافتراضية تخاطب النرجسية بطريقة أخرى، إذ إنها تسمح لك بقطع العلاقات مع الآخرين بيسر وسهولة. فعلى شبكة «الفيسبوك» مثلاً، يكفي أن تضغط على زر: «إلغاء الصداقة» أو على زر «البلوك» حتى يخرج الآخر من حياتك الافتراضية باليسر نفسه الذي دخلها به. وهذه القدرة على «أن تلغي» مِنْ حياتك مَنْ لا يناسبك فكره أو مواقفه تعطي الإنسان وهم قوة ووهم سيطرة يتلاءمان والنرجسية. وخلافاً لذلك، فإن قطع العلاقات بل تحديدها مع من نعرفهم فعلاً في الواقع ليس شأناً سهلاً. وقد يفتح الباب لعدد كبير من المشاكل والصراعات والأزمات يعسر للأنا التعامل معها ويصعب عليه حلها، فضلاً عن أنها تحدد وهم مقدرة الأنا الخيالية. الأكثر هو الأقل لقد أسلفنا أنه من المفترض نظرياً أن تساهم الشبكات الاجتماعية في ترسيخ التواصل الفعلي بين البشر، على أن فشل هذا الافتراضي في تحقيق المفترض ليس غريباً لكل من كان يستحضر العمق الفلسفي للمثل العربي القديم: «كل شيء إذا زاد عن حده انقلب إلى ضده». ذلك أن المجال الافتراضي لتوفره دوما في كل آن وحين يطرح أمام الإنسان إمكاناً شاسعاً للتواصل. فكل واحد منا يعرف أن صاحبه أو قريبه أو زميله على بعد زر واحد من رسالة أو خطاب. وهذا الوضع نفسه ينشئ مفارقة مفادها أن ذاك القرب «المطلق» نفسه هو الذي يمنعك من التواصل مع الآخر. فالإنسان يجد نفسه دوماً محمولاً على إرجاء ما يمكن تحقيقه الآن بيسر، ويجد في مقابل ذلك نفسه محمولاً على محاولة تحقيق ما يشعر أنه عسير التحقق وما يشعر أنه غير متاح دوماً. سابقاً مثلاً، عندما كان التواصل بين الناس عسيراً، كان الناس يتجشمون عناء كتابة الرسائل، وقبل ذلك كانوا يتجشمون عناء السفر لملاقاة الآخر. أما، والتواصل حاضر بالقوة، فأغلب الناس يتكاسلون عن الاتصال بالآخر، فيكثر الإرجاء والتأجيل وتقل مناسبات الحوار الفعلي والتفاعل الواقعي. وبعبارة فلسفية أخرى، فإنه يمكن أن نقول إن الإطناب في حضور الممكن يقلل من حضور الكائن. إن إمكان التواصل الذي زاد عن حده انقلب إلى ضده ضمورا للتواصل. واستناداً إلى ما سبق كله، فإنه يمكن أن نؤكد أن الثورة التكنولوجية، وإن شملت المجالات التقنية والعلمية والإعلامية فإنها بلغت العمق البشري وأثّرت فيه وغيّرته وبدّلته. وهذا ما يفتح للعلوم الإنسانية مناهج للبحث جديدة وأبعادا للتأمل والتفكير مستحدثة ومتنوعة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©