الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

حوار الثقافات.. بذرته بدأت من الحصن

حوار الثقافات.. بذرته بدأت من الحصن
11 فبراير 2015 00:31
لم يبدأ الرحّالة الغربيون استكشافهم للمنطقة بدوافع «ثقافية» و»حضارية» ذات مسحة أخلاقية تستهدف التعرف على الموطن الأصلي للعرب، أو تلك الأسس الثقافية والحضارية التي انطلقت من هذا المكان إلى العالم، وحكمت في أوروبا ردحاً طويلا من الزمن باسم الإسلام وأخلاقياته التي أسهمت، في آخر الأمر، في دفع عجلة التطور الأوروبي على مستوى العلم مثلما على مستوى الانفتاح الثقافي. ينطبق ذلك على المنطقة العربية كلها، وليس على منطقة الخليج العربي وحده، لكنه هنا كان أكثر فجاجة، إذا جاز التوصيف. إذ أسهم الرحالة باستكشافاتهم في المنطقة في وضع اللبنات الأولى لاستعمار الخليج العربي منذ مطالع القرن الثامن عشر على أقل تقدير بما كانوا يزودون به حكوماتهم بتقارير استخباراتية عن الجغرافيتين البشرية والسياسية اللتين منحتا هذه المنطقة موقعها الاستراتيجي في السياسة الغربية عموماً والإنجليزية على وجه التحديد. إلا أنه، في الوقت نفسه، من غير الممكن التعميم والإطلاق، حيث شهد تاريخ هذه الاستكشافات حضوراً لافتاً لعدد من الرحّالة «المنصفين» لعرب الخليج العربي والحضارة العربية والإسلامية، خاصة في المرحلة المتأخرة لهذه الاستكشافات التي يرقى تاريخها حتى سبعينيات القرن الماضي على أقلّ تقدير. البدايات الأولى هل يمكن القول إن طبيعة «التعامل» اليومي مع هؤلاء الرحّالة، سواء من قبل الحاكمين أو من قبل الناس، كان لها دور فاعل في تغيير وجهة نظر بعض الرحالة تجاه المكان وساكنيه؟ وهل من الممكن وصف هذا التفاعل الإنساني معهم بأنه كان «حوار ثقافات» ولو بالمعنى الأولي والبسيط للكلمة؟ وهل كان لهذا الحوار أي دور في أن يتخلص هؤلاء الرحالة في أعمالهم التي كتبوها من مواقفهم المسبقة تجاه الاسلام والعرب، ومن أفكارهم التي كانت تحدد سلفاً نتائج زياراتهم وإقاماتهم في المكان بين أهله. في ندوة أقيمت خلال الدورة الماضية من مهرجان قصر الحصن وحملت عنوان: «قصر الحصن.. ضيوف على مرّ التاريخ» وشارك فيها الدكتور زكي نسيبة إلى جوار الألمانية الدكتورة فراوكه هيرد – باي، صاحبة «من إمارات متصالحة إلى دولة الإمارات العربية المتحدة» وأحد أهم الموثقين الأوائل لتاريخ الإمارات، أشارت هيرد – باي إلى أن «الشيخ زايد الأول قد خصّهم (أي الرحالة الأجانب) ببيت خاص بضيافتهم هو «بيت العريش» هم الذين كان البعض من بينهم مصورين فوتوغرافيين زاروا أبوظبي، والتقطوا فيها العديد من الصور ثم عبروا منها إلى غيرها من المناطق، سواء عبر الساحل أم الطرق البرية، حيث كانوا يتزودون قبل رحيلهم بالغذاء والدواب والمرشدين، والأموال اللازمة والتوصيات المكتوبة إلى شيوخ المناطق التي يتوجهون إليها». كما أشارت إلى أن مجالس حكّام أبوظبي لم تكن تخلو منهم. حتى أن العديد من بينهم، وخلال فترات تاريخية متفرقة، قرروا الاقامة في أبوظبي، هذه المدينة التي ما تزال تحتفظ برفاتهم هنا بعد رحيلهم. بهذا المعنى، قد يسمح المنطق التاريخي بالقول بأن «قصر الحصن» قد شهد أولى بوادر ظهور الحراك الثقافي بين الغرب والمنطقة، والذي بات يسمى الآن «حوار الثقافات» منذ ما لا يقل عن المائة عام ويزيد. غير أن «النبش» في الوثائق المتاحة يحتاج إلى الدأب والجلد لما يتطلبه العثور على ما هو ناجز من تفاصيل هذا الحراك مترامياً في كتب الرحالة وسيرهم ومقالاتهم، أو في التعليقات على هذه الكتب التي من النادر أن جرت قراءتها من وجهة نظر ثقافية محضة. روح البداوة من الجدير بالاهتمام هنا أنّ أغلب الرحلات التي أنجز الرحالة الأجانب كتباً عنها، قد حدثت في الوقت الذي كانت تعيش فيه منطقة الخليج العربي نوعاً من العزلة السياسية، خاصة بعد اتفاقية عام 1820، التي تركت أثراً كبيراً على مجمل الصلات الطبيعية والتاريخية للإمارات المتصالحة مع امتدادها الحضاري في المنطقة العربية على وجه الاجمال، فضلا عن غياب التعليم النظامي وسائر مظاهر الدولة الحديثة. وأدّى ذلك من جملة ما أدّى إليه، إلى استمرار الحياة في الصحراء العربية على بدائيتها وبداوتها الأولين بكل ما فيهما من فطرة العيش المقرونة بحال من الشظف في بيئة قاسية مهما تقلّبت عليها فصول السنة. ولعل «روح» البداوة الصحراوية هذه، هي التي أججت الرغبة العارمة في الاستكشاف لدى الرحالة الأجانب مدفوعين بخوض مغامرة حقيقية وسط كثبان رملية يقودهم في متاهاتها البدو أنفسهم، متنقلين بهم بين العديد من المخاطر البيئية التي تجعل من التوغل في الصحراء العربية مغامرة بحقّ. في هذا السياق تعرّف الرحالة الأجانب إلى ثقافة البدو بتفاصيلها المتعددة وتضاريسها المركبة، فاستكشفوا المنشأ أو الأصل الذي يحكم سلوكهم في علاقاتهم الاجتماعية مثلما في علاقاتهم مع البيئة والمحيط. غير أن هذا المتن للرحلة لم يكن هو أول ما يقوم به المستكشفون الطامحون، فقد كانوا في البداية يمرون بقصر الحصن، ويقيمون لفترة من الوقت في «بيت العريش»، ويتعرفون إلى الحاكم ويتزودون منه بكتب توصية تمنحهم الأمان على أشخاصهم كلما مرّوا بأرض أخرى غريبة، مثلما يتزودون بالمال والدواب والطعام اللازم الذي يكفيهم لأيام. لا تنقل كتبهم أفكاراً محددة حول «حوار بين الثقافات» بالمعنى الراهن للكلمة، ولم يتطرقوا إلى حوارات قد خيضت مع حاكم بعينه أو مع الأدلاء أو مع مثقفين من الخليج، كالشعراء الذين يكتبون قصائدهم بالعامية أو بالفصيحة، وقد التقوا بهم في قصر الحصن مثلا، لكن هناك في ذلك المكان تعرفوا إلى «ثقافة البساطة» في العيش والسلوك الاجتماعي بحسب ما كتب البعض منهم عن علاقة هذا الحاكم أو ذاك بمحكوميهم ورعاياهم أو الأجانب المقيمين بينهم. وفضلا عن أنهم كانوا مستضافين في «بيت العريش» على نحو دائم ولم تغلق أبوابه دون أي منهم، فقد أمّوا المجالس السياسية وغير السياسية في قصر الحصن الذي كان بوابتهم من الماء إلى الصحراء.. تلك الغابة من الرمال وقد ادخرت في طواياها أنواء وأزمنة من غير الممكن أن يدرك تحولاتها ومساراتها ومآلاتها سوى ساكنيها الذين كان سلوكهم تعبيراً عن موقفٍ ما يشير، وبطريقة أو بأخرى، إلى رؤيتهم للعالم والحياة وظواهر الطبيعة التي تشكلت منها، جميعاً، خبراتهم في العيش في هذا المكان بما في ذلك طريقة لباسهم وسكنهم وسائر مفردات العيش اليومي الأخرى. تبادل من طرف واحد بما لذلك فإن العديد من هؤلاء الرحالة الأجانب قد أشاروا في كتبهم إلى حكام قصر الحصن بالاسم والنسب في سياق مدح كرمهم وأخلاقهم وسلوكياتهم الاجتماعية التي بدت غريبة عليهم مقارنة بتقاليد يألفونها في بلادهم، الأمر الذي يشكف التنوع والتعدد في ثقافات العالم الذي انتبهوا إليه في تضاعيف كتاباتهم لكنهم لم يذكروه نصاً في كتبهم. فيكتب أحدهم عن رجل بدوي كان يعرض قضيته في مجلس الشيخ زايد الأول دون أن يكون مضطراً للخنوع أو الخضوع تبعاً لطرق الولاء المفروضة على العامة في بلادهم، تلك الطرق التي تستوجب منهم الانحناء أكثر مما ينبغي لإنسان أمام إنسان آخر. وبوصف هذا المشهد أمرا يستحق التسجيل بالفعل. وهذا الاحتكاك الثقافي، إذا صحّ توصيفه كذلك، لم يكن تبادلا بين طرفين، بل كان قادما من اتجاه الغرب وحده لأسباب عديدة. غير أن الملاحظ فيه هو أنه يتقاطع بصورة كبيرة مع الاستشراق بمدارسه المتعددة ولغاته كذلك، بحيث أن المرء لماذا على وجه الدقة أن الرحالة الألمان مثلا كانوا أكثر صدقية وإنصافا للثقافة العربية، بحسب ما تُعاش على الأرض والواقع، من سواهم من المستشرقين، رغم أن هذه الكتابات لا تخلو في بعض الأحيان من صورة نمطية تجاه الحياة البدوية للصحراء العربية سواء لناحية رومانسية مبالغ فيها أو لناحية وصفهم بـ»لغة» لا تُخفي الصلف والعجرفة والتكبر الفارغ المفرط في تطرفه كما هو موقف الرحالة ورجل السياسة الإنجليزي برترام توماس من القواسم والشحوح في كتابه «مخاطر وجولات في جزيرة العرب» الذي صدر أواخر العام الماضي عن هيئة أبوظبي للسياحة والثقافة – دار الكتب الوطنية. معلم للسفن «قصر الحاكم هو حصن كبير مهيب، يقع بين صفّ من النخيل والجزء الخلفي للمدينة. وهو على الأغلب أكبر وأعلى بناء في مدينة أبوظبي ويتضمن داخل أسواره الحصن القديم الذي كان معلماً للسفن العابرة. الرائد كلارينس مان أبعاد رمزية بدءاً من عام 1793 وحتى عام 1966، تناوب على قصر الحصن، أحد عشر حاكماً لأبوظبي، استغرقت مدة حكمهم المئة وثلاث وسبعين سنة على التوالي، جرى خلالها تكريس الحصن بوصفه المؤسسة السياسية الحاكمة. من هنا يأخذ قصر الحصن، رمزيته السياسية والثقافية بالنسبة للإماراتيين اليوم، مع أنه ليس الحصن الأقدم في الإمارات وربما لم يكن الأكثر منعة من بينها أمام غزو السفن البريطانية، لكنه كان أولى بشائر تحدي الاستعمار عبر ممارسة سياسية من غير الممكن تجاوزها في أي ظرف من الظروف السياسية. جذور التنوع.. قديمة في وقت جاء في أعقاب اكتشاف النفط وبدء تصديره وإحساس الحكام والشعب الإماراتي بأنهم قد خرجوا حقاً من المأزق التاريخي للقرن التاسع عشر وإرثه الطويل، كان قصر الحصن قد رسخ في أذهان الظبيانيين ثم الإماراتيين عموماً بوصفه المؤسسة السياسية التي قادت حراك إمارة أبوظبي طيلة قرنين من الزمن تقريباً. وذلك مع ملاحظة أنه خلال هذا الحراك السياسي والاجتماعي – الاقتصادي والتاريخي لأبوظبي، قد أكّد العديد من الدارسين لتاريخ الإمارات، خاصة في المدن – العواصم، أن التنوع العرقي واللغوي كان موجوداً باستمرار في مدينة أبوظبي بوصفها العاصمة وبوصفها مدينة ساحلية كبرى تشاطئ بحراً منحها ميزة التنوع والتعدد الثقافي، وبحيث إن هذا التنوع ليس سمة راهنة تميز مجتمع الإمارات عن سواه من المجتمعات العربية المحيطة به في هذه المرحلة فحسب. إرث من الطبقات بسبب التغييرات التي حدثت على القصر من توسيعات وترميمات، بات المكان إرثاً من طبقات أركيولوجية، معمارياً وسياسياً. ذلك أن الوظيفة الجمالية تتجاوز الاستخدام اليومي للأدوات والآلات والمفردات المعمارية وسائر الموجودات في سياق علاقات تفاعلية مع واقع محيط مثلها مع مستجدات كانت تطرأ بين حين وآخر.. هذه الوظيفة تتجاوز الاستخدام اليومي لتصل إلى الإحساس بالقيمة الجمالية لدى «بنائي» هذا المكان الذين وضعوا لبناته الأولى من مواد خام أولية وفرتها لهم البيئتان البرية والبحرية ليكون قصر الحصن تعبيراً عن شخصية هذا المكان وشخصية الإنسان الساكن فيه.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©