الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

لذة الوصف الشعرى

لذة الوصف الشعرى
17 مارس 2010 20:22
كان الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان شغوفا بالشعر وفضوليا تجاه وصف الخمر، كان يتلذذ بهذا الوصف ويراجعه، ويرى فيه مظهر الجمال والإبداع، حتى لو أثار شكوك المستمعين عليه، أو جرأتهم في خطابه، من ذلك ما يروى من أنه قال للأُقيبل القيني صف لي الخمر فأنشأ يقول: كميتٌ إذا شجَّت، وفي الكأس وردة لها في عظام الشاربين دبيبُ تريك القذى من دونه، وهي دونه لوجه أخيها في الإناء قطوب فقال عبد الملك: لقد رابني وصفك لها، فقال الأقيبل: لئن رابك وصفي لها فقد رابني معرفتك بها، فالخليفة يطلب من الشاعر وصف الخمر فلا تسعفه في البداية سوى ذاكرة الألوان، فيشهد أنها حمراء ضاربة إلى الصفرة عندما تشج دنانها وتفتح، فإذا صارت في الكأس أصبحت وردة يانعة وأخذت تسري في عظام الشاربين فيحسون بها تدب في عروقهم وهي صافية لا تتضمن أية شوائب حتى لترى وجهك فيها وأنت مقطب عابس. عندئذ يدرك الخليفة مدى دقة الوصف وصواب الإشارة فيداعب شاعره بقوله أنه يداخله الشك والريب في علاقته بالخمر التي تنم عن طول صحبة تجعله يحسن جلاء حقيقتها، فلا يتحرج الشاعر من أن يرد عليه بجرأة أشد فيقول للخليفة أن قد برهن بدوره على معرفته الوثيقة بالخمر بإدراكه صحة الوصف. وتتكرر نوادر الخليفة ذاته مع أحد كبار شعرائه مما لا ريبة في معرفتهم بالخمر وهو الأفضل النصراني، فقد طلب منه أيضا وصفها فقال له الشاعر الخبير أولها صُداع وآخرها خُمار (أي سكر) ، فقال: ما يعجبك منها، فقال الشاعر إن بينهما طُربة (أي حالة من الطرب والنشوة) لا يعدلها ملكك، وهكذا تشتد جرأة الشعراء على الخليفة الذي يصر على استقصاء أوصاف الخمر، فيشهد له الأخطل بأثرها عليه، ثم يتابع ذلك شعرا يروق للخليفة: إذا ما نديمي علّني، ثم علّني ثلاث زجاجات لهن هدير خرجت أجر الذيل مني كأنني عليك أمير المؤمنين أمير وإذا كان التلذذ بالوصف من سمة العارفين بالشعر وأهميته الفنية في التصوير فهناك نوع آخر من التلذذ بالوصف انفرد به أكبر شاعر خمري في الآداب الإنسانية وهو أبو نواس عندما قال: ألا فاسقني خمرا، وقل لي هي الخمر ولا تسقني سرا إذا أمكن الجهر فهو يتلذذ بالاسم كما يتلذذ العاشق باسم محبوبته، ويملأ سمعه به كما يترع حلقه بها، وأخطر من ذلك فهو يزهو بشرابها ويتمنى أن يمارسه في العلن دون السر، هنا يصبح الخمر موضوعا لمتعة مركبة في تناولها والاستمتاع بها أحيانا، وأهم من ذلك في اتخاذها مادة للوصف الشعري الباذخ في ثرائه التصويري، بما يجعل الثقافة العربية غنية في تمثيلها للحياة بكل ما تزخر به من خير وشر، وللتجربة الإنسانية في جميع حالاتها الواعية والذاهلة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©