السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

عمر غباش.. الموغل في العشق

عمر غباش.. الموغل في العشق
17 مارس 2010 20:40
علامتان ثقافيتان لازمتا طفولته وما تزال لهما مكانة كبيرة في قلبه وذاكرته: مدرسة الأحمدية الجديدة في منطقة الرأس التي ولد فيها، والمكتبة العامة التي فتحت له عالمين فسيحين: عالم المتعة المعرفية بكل ما في القراءة من عذوبة محمولة على صفحات الكتب، وعالم المتعة البصرية المحلقة على جناحي المشاهد السينمائية في عروض الأفلام الوثائقية التي كانت تتم في القاعة الصغيرة التي سرعان ما تحولت الى طقس جمالي يأخذ الروح إلى مديات شديدة الاتساع بالغة الرحابة. لم يكن الفنان المسرحي عمر غباش قد بلغ الحادية عشرة من العمر عندما فتحت له الجنية/ الخشبة أحضانها فأخذت بمجامع قلبه، وسحرته. من يومها ذهب عمر في إثرها ولم يشفَ من غوايتها. كانت وقفته الأولى ليلعب دور المدير العام في مسرحية “واو فوق قاف” أي الواسطة فوق القانون التي أخذته بدورها إلى “عائلة بوسلطان والحرامي”، ولم يمض وقت طويل حتى تدفق “جنونه المسرحي” مع المخرج البحريني عبدالله السعداوي والفنان عبدالله المناعي اللذين قدماه في مسرحية “نهر الجنون” لتوفيق الحكيم. في “ثانوية دبي” ستبدأ مرحلة أخرى، وسيتعرف عمر غباش على ناجي الحاي وعلي العبدول وسيف المري وجمال مطر وحمد الدوسري وعبد الله يوسف ليشكلوا فريقاً مسرحياً مدرسياً، وليشاركوا في مسابقات المسرح المدرسي على مسرح خالد بالشارقة، ثم يكوِّنوا في نهاية المرحلة الثانوية (1980م) مسرح دبي التجريبي. بيد أن هذا كله لم يكن سوى إرهاصات لميلاد حقيقي سيأتي بعد سنوات قليلة؛ حدث ذلك في ثمانينيات القرن الماضي التي شهدت بدايات تأسيس المسرح في الإمارات. كانت وزارة الإعلام والثقافة تنظم الدورات والورش المسرحية وتحضر أهم المسرحيين العرب للإشراف عليها. وكما كان لها دور في تأسيس الكثير من المسرحيين الإماراتيين لعبت الدور نفسه في حياة غباش الذي شارك في دورة أشرف عليها المنصف السويسي الذي نصحه بدراسة المسرح في مصر أو الكويت، لكنه فضل أن يدرس المسرح في الولايات المتحدة الأميركية، ليعود من هناك بتجربة أكاديمية وخبرة عملية وعمل لأن يوظفها لما يخدم تجربته المسرحية بشكل خاص، والتجربة المسرحية المحلية بشكل عام. مذّاك عرفته الخشبة المسرحية ممثلاً ومؤلفاً ومخرجاً ومدرباً وإدارياً مأخوذاً بالهم المسرحي حتى النخاع. لست نادماً ذهب عمر غباش عميقاً في العناية بالشأن المسرحي والعمل المؤسساتي والاجتماعي المتعلق بالمسرح، وغالباً ما يعلن الذين يعيشون تجربة من هذا النوع ندمهم لأن العمل الإداري سرقهم من الإبداع وخسروا إبداعياً بسببه، بينما يرى هو عكس ذلك، ويؤكد أن العمل الإداري لم يستغرقه ولم يخفف أو يطفئ جذوة إبداعه: “رغم انهماكي في العمل الإداري الخاص بالمسرح وكثرة المسؤوليات وتعدد الأدوار التي أقوم بها، لم أنس المسرح ولم أبتعد عن جمرة الخشبة، ذلك أنني كنت واعياً ومنتبهاً تماماً إلى ضرورة الإنجاز الإبداعي إلى جانب الإنجاز الإداري والمؤسساتي. صحيح أن العمل الإداري يأخذ الكثير من الوقت والجهد، وكان يمكن أن يتوفرا للتمثيل والتأليف والإخراج، لكنني لست نادماً إطلاقاً لأنني حققت التوازن بينهما، ولقناعتي أن للفنان دورا اجتماعيا ينبغي عليه أن يمارسه تجاه مجتمعه لا يقل أهمية عن دوره الفني”. أحلام تنتظر يتوفر عمر على رصيد مسرحي غني، يمتد على مساحة 35 عاماً قضاها في عشق “أبو الفنون” حقق خلالها الكثير من الأحلام وما زالت هناك أحلام تنتظر، وشأنه شأن كل مبدع، يشعر بكثير من الرضى عما أنجزه لكنه ليس رضى كاملاً، وهو يشرح ذلك بالقول: لكل مرحلة في الحياة أهداف تناسبها أو تخصها، في البداية كنت أحلم بمجرد الوقوف على خشبة المسرح، ولما تحقق لي ذلك بدأ هوس الاغتراف من معين المعرفة عبر التدريب والدراسة، ثم سكنتني رغبة الاحتراف وتقديم المميز والمختلف، وهكذا كلما تحقق حلم نبت آخر، وكلما حقق المرء هدفاً ولد غيره. صحيح أنني أنجزت الكثير مما يرضيني لكنني لست راض كل الرضا عما قدمت، أو عن ما أنجز في الحركة المسرحية التي تسكنني هي الأخرى. في الحقيقة أنا مهموم بالحركة المسرحية، ربما يفضل الآخرون التركيز على عملهم الشخصي، أما عني فلديَّ إلى جانب العمل الشخصي همّ عام يتمثل في إدخال عناصر جديدة إلى المسرح، وتقوية وتنشيط الحراك المسرحي. أنا مشغول بعمق بأهمية المسرح في الحياة الثقافية بشكل عام، وأظن أنني حققت الكثير على هذا الصعيد بجهود الإخوة المسرحيين بالطبع. لكن ما حققته أقل من الطموح، ولو كان هناك وعي أكبر من قبل الجهات المعنية بالمسرح بدور المسرح وأهميته لتغيرت الصورة بشكل أكبر وأكثر إيجابية. مع ذلك، لو قارنا الحركة المسرحية في الإمارات مع دول الخليج سنجد أنها قفزت قفزات كبيرة، وباتت تحظى باحترام كبير بين المسرحيين العرب ويشار لها في أكثر من مناسبة. ويمكنني القول إن المشهد العام للمسرح الإماراتي جاد وهادف، لم يقع في التهريج أو التسطيح. وأعمالنا قدمت وتقدم على مسارح خليجية وعربية، وهذا دليل على أن الكتابة المسرحية في الإمارات أنجبت نصوصاً جيدة وكتاباً مبدعين. عوالم مسرحية مبكراً بدأ عمر غباش علاقته مع المسرح العربي والعالمي، فقام بمسرحية “الامبراطور جونز” لـ يوجين أونيل، و”وظيفة للإيجار” لـ علي سالم، و”لعبة كشخة” لـ فائق الحكيم، لكن جذور تجربته الشخصية في الإعداد والاقتباس، تعود، كما يقول، إلى مرحلة الدراسة الثانوية مع عمل مسرحي للأطفال اسمه “علاء الدين والمصباح السحري”، وقام “بأمرتته” مع محسن محمد وناجي الحاي وجمال مطر ليناسب مجتمع الإمارات، بعدها أعد مسرحية “أوديب” تحت عنوان “عندما قتل الوحش”. قدم عمر غباش للمسرح الإماراتي أعمالاً مهمة من بينها: صمت القبور، أحلام مسعود، شما، عرسان عرايس، وسواس، طوايا، وحصد أكثر من جائزة على أعماله في المهرجانات والاحتفاليات المختلفة. وما تزال صمت القبور وأحلام مسعود وشما علامات بارزة في مسيرة المسرح في الإمارات. تواشجت في رؤيته المسرحية عوالم شتى ولامس موضوعات محلية وعربية وإنسانية. تناول الموضوع التاريخي والاجتماعي والسياسي، وقدم أنماطاً متنوعة من التكنيك المسرحي، في سعيه الدؤوب لتحقيق ذاته الإبداعية الخلاقة. جمع بين التأليف والإخراج تارة، واكتفى بالإخراج تارة أخرى. كان يغادر مطرح المؤلف إلى مطرح المخرج متنقلاً بين المطارح، كلما شعر أن العمل يناديه، وأنه الأقدر على إخراجه في الصيغة الفنية التي يشتاقها موضوعه. وهكذا، تجسدت في حياته على نحو خاص تلك القرابة العميقة التي تربط بين صنوف الإبداع المسرحي. الإبداع والمال كثيراً ما تثور مشكلة التمويل الضئيل عند الحديث عن المسرح، وتشكو الفرق من ضعف الميزانيات المخصصة لها، ويعاني مخرجون من ندرة فرص الإخراج، وحول هذا الموضوع يرى عمر غباش أن التمويل جزء من المشكلة بالطبع، لكن المشكلة الحقيقية هي في تكوين الفرق، فبعض الفرق لديها أربعة مخرجين في حين أنها تقدم عملا أو عملين كل سنة، ما يعني أن على المخرج أن ينتظر دوره للإخراج، ويكمن حل هذه المشكلة (جزئياً) في أن تفتح الفرق التي لا يوجد لديها مخرجين المجال لمخرجي فرق أخرى. أما عن العلاقة بين المال والإبداع وصعوبة التوفيق بين شرط الربح وشرط الإبداع، فيعتقد عمر غباش أن التوفيق بين الإبداع ورأس المال ممكن بل ومطلوب “لأننا لم نعد في زمن يكتفي فيه المبدع بتقديم عمله (رغم أن هذا هو دوره الحقيقي)، بل بات عليه أن يمارس دوراً مجتمعياً لتبيان أثر الثقافة والفنون في التنمية، وثمراتها المنتظرة على مناحي الحياة المختلفة. الفن مُنتَج لا يحقق الربح السريع لكنه رابح على المدى الطويل، ما يعني أن على المبدعين أن يبحثوا عن سبل كفيلة بتقصير المدة أو المسافة، وسيكون لهذا نتائج مجتمعية واقتصادية ملموسة”. ويضيف: “يمكن أن يكون المنتج الإبداعي جزءاً من عجلة الاقتصاد والتنمية وأن يكون إبداعياً وربحياً في الوقت نفسه، خاصة في العالم الراهن الذي يحترم حقوق الطبع والإنتاج والتوزيع والنسخ وهي تحقق عوائد كبيرة. لا بد من البحث عن طرق للوصول إلى هذه المرحلة من الإنتاج المبدع ليكون له مردود آخر غير المردود المعنوي (تسويق الأعمال على مستوى التلفزيونات والفضائيات، والاستفادة من الأوعية الثقافية المختلفة مثل الأسطوانات المدمجة وأفلام الفيديو وبيعها للجمهور)، وهذا يحقق للإبداع الانتشار والوصول الى المتلقي في الوقت نفسه. لكن هذا يحتاج إلى نضج مؤسساتي يستلزم اطلاع مسؤولي الفرق وغيرهم من القائمين على شؤون المسرح على اسس تسويق المنتج الإبداعي، وتنظيم الدورات التدريبية، وتخصيص مجموعة من الأشخاص مهمتهم التفكير والبحث عن طرق جديدة لتسويق الأعمال. هجرة تلفزيونية شهدت السنوات الأخيرة ما يشبه “هجرة المسرحيين” من المسرح إلى التلفزيون، ومن “المسرحية” إلى “الدراما”، وبينما يرى الكثير من أهل المسرح في هذه الهجرة ظاهرة سلبية أضرت بالمسرح الذي صار يوصف بأنه “بيئة طاردة” يرى عمر غباش أنه لا يوجد اي تعارض بين المسرح والتلفزيون، وكل ما يحتاجه الأمر هو الوعي بحيث يكون هناك تنسيق بين النشاط المسرحي والدرامي وتوزيع الوقت لكي يتسنى للممثلين التصوير للمسرح. كل المطلوب أن تكون هناك خطة بمواعيد التصوير التي تناسب التصوير التلفزيوني، وهي غالباً في الفترة من نوفمبر إلى مايو، وما تبقى يكون للمسرح. ولا يخفي عمر غباش حزنه بل وشعوره بالغبن عندما تنفتح سيرة التلفزيونات وإهمالها للعروض المسرحية المحلية، ويبدي أسفاً بالغاً لأن الدراما الإذاعية توقفت، بل إن وسائل الإعلام التي كانت فاعلة في الثمانينيات وأوائل التسعينيات من القرن الماضي لم تعد تشجع على تقديم اعمال درامية اذاعية، وهي في المجمل مشغولة بالأغاني وبرامج المنوعات والترفيه. ويؤكد أن من الأهمية بمكان أن توجد إذاعة عامة تبث الوعي عبر أكثر من وسيلة: دراما، أخبار، اسكتشات، برامج، مسلسلات تمثل البلد وتعبر عنها. المسرح وأيامه لا يختلف اثنان على الدور التأسيسي والتحفيزي والتشجيعي الذي لعبته أيام الشارقة المسرحية منذ تأسيسها وما تزال، وإذا كان من راع حقيقي للمسرح فهي “الأيام” التي يرى عمر غباش أنها لطالما ضخت الحياة في عروق الجسد المسرحي، وساهمت في الحراك المسرحي الذي كان يحدث حال انعقادها في أجواء من الحميمية والمنافسة الإبداعية التي طورت أدوات المبدعين ودفعتهم الى تجويد عطائهم سنة بعد اخرى. ناهيك عن العروض الزائرة التي تستضيفها من الدول العربية مما افسح في المجال للمسرحيين العرب ليتعرفوا الى المنجز المسرحي في الإمارات، وللمسرحيين الإماراتيين ليتعرفوا الى المنجز المسرحي في العالم العربي ويتواصلوا مع رموزه والأسماء الفاعلة فيه. لقد كان لأيام الشارقة المسرحية منذ البدء دور مميز في تنشيط الحركة المسرحية، وفي رفدها بدماء جديدة لجهة التأليف والتمثيل والإخراج والسينوغرافيا وغيرها من الفنون المسرحية، وقد حققت الأيام الشعار الذي رفعته وهو تشجيع الفرق المحلية على الإنتاج. أما جمعية الإمارات للفنون المسرحية فهي بالنسبة إلى غباش “بيت المسرحيين” الذي يفترض فيه أن يستوعب كل الفنانين بأريحية وبدون تفريق بين مجموعة وأخرى. إنها “بيت العيلة” الذي يلم بين أكنافه الجميع ويؤازر ويحتضن وهذا بالفعل ما قامت به الجمعية وما تزال تقوم به.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©