السبت 27 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

ذكريات درس شوقي 1- 4

ذكريات درس شوقي 1- 4
7 نوفمبر 2007 02:18
عندما تخرجت في قسم اللغة العربية بآداب القاهرة، سنة ،1956 كان حلم حياتي أن تكون أطروحتي للماجستير والدكتوراه عن تغير ''إيقاع الشعر العربي'' عبر مراحله المختلفة إلى أن نصل إلى الشعر الحر أو شعر التفعيلة، ومنه إلى ''قصيدة النثر'' التي كان منبرها الأوحد، في ذلك الزمان، مجلة ''شعر'' البيروتية التي تحّلق فيها يوسف الخال وأدونيس وأنسي الحاج وجبرا إبراهيم جبرا وغيرهم من شعراء الحداثة العربية الذين ملأوا المشهد الثقافي دعوة إليها، وإشاعة لمبادئها· وأعترف أنني اقتنعت بكثير من هذه المبادئ نتيجة إعجابي الباكر بأدونيس وأنسي الحاج ويوسف الخال، وأضيف إليهم بدر شاكر السياب الذي نشرت له مجلة شعر ديوانه (أنشودة المطر) الذي انفجر في الحياة الثقافية العربية كالقنبلة الإبداعية التي لفتت إليها كل الأنظار· وتحمست أستاذتي الدكتورة سهير القلماوي للمشروع الذي قررت أن تكون أطروحتا الماجستير والدكتوراه تطبيقاً له، وزادني حماسة أنني قرأت ما كتبه محمد مندور، وكان من أبرز النقاد العرب في الخمسينيات والنصف الأول من الستينيات، عن إيقاع الشعر العربي، وكيف درس أصواته دراسة معملية في باريس· وكنت أظن أن الأمر سهل، يمكن تحقيقه في سنوات معدودة· لكن أستاذتي التي كانت بمثابة الأم لي، أخذت تطامن من حماستي الرومانسية، وتردني إلى أرض الواقع، فطلبت مني أن أسأل علماء اللغة عن الوقت اللازم لدراسة الأصوات في مجال علم اللغة، وعن الوقت اللازم لدراسة الأصوات معملياً، وكانت جامعة الإسكندرية قد افتتحت أول معمل لدراسة الأصوات في اللغة العربية تحت إشراف الأستاذ بخاطره الشافعي الذي هو أحد الجنود المجهولين في الدراسات اللغوية، أما عن السنوات التي لابد من قضائها في تعلم الموسيقى، والتعمق في المقامات العربية، ودراسة أنواع الإيقاع الرئيسية، فكانت أكثر بكثير مما يمكن أن تحتاج إليه أطروحتي للماجستير· وفي النهاية، قالت لي أستاذتي لماذا لا تبدأ بدراسة الصورة الشعرية التي لا تحتاج إلى هذا الجهد الذي ينوء بحمله فريق من الباحثين، ولا تحتاج إلا إلى تطوير قراءاتك باللغة الإنجليزية التي لابد من إتقانها في الجامعة الأميركية، كي تتمكن من قراءة المراجع اللازمة لدراسة عميقة للصورة الشعرية التي لم يكن قد كتب فيها أحد بعد سوى مصطفى ناصف الذي كان قد أصدر كتابه (الصورة الأدبية)· ولعله هو الذي أوحى إلى أستاذتي أن توجهني إلى دراسة الصورة والخيال، بدل دراسة النظم والإيقاع التي تستغرق أكثر من عمر كامل لأحد الباحثين· وقبلت بعد تردد وممانعة مني وإلحاح في الإقناع والتوجيه من أستاذتي، واتفقنا أن تكون أطروحتي للماجستير عن الصورة الشعرية عند شعراء الإحياء، البارودي وحافظ وشوقي ومطران والجارم وعائشة التيمورية وأحمد محرم وغيرهم من الشعراء الذين بدأت بهم النهضة الشعرية، وذلك على أمل أن أنتقل من شعراء الإحياء إلى ما بعدهم في مرحلة الدكتوراه· وبالفعل، ذهبت إلى الجامعة الأميركية في القاهرة لإتقان القراءة باللغة الانجليزية، ومن ثم الإفادة من المراجع التي لا عدّ لها في الموضوع بالإنجليزية، ومضيت في الدراسة، موزعا وقتي بين اتجاهين: قراءة الموضوع ومراجعه الممكنة باللغة العربية، وقراءة المراجع الأجنبية التي كانت، لسبب أو آخر، تركز على شعر الرومانسيين الإنجليز، أمثال بليك وشيللي وبايرون وكولرد ووردزورث وغيرهم، وشعراء الحداثة الإنجليزية التي كان يمثلها ت·إس· إليوت، وأودن وإزرا باوند، وكيتس، من بين الشعراء، وريتشاردز وبروكس وأمثالهما من النقاد· وكنت قد توصلت إلى بناء مجموعة من معايير القيمة للحكم والتفسير في ذهني، أهرع إلى تطبيقها على شعراء الإحياء، وخاصة البارودي وشوقي اللذين عددتهما، ولا أزال، أهم شعراء مدرسة الإحياء أو البعث أو النهضة، وكلها أسماء لمدرسة واحدة· وشيئا فشيئا اكتشفت أن نتائج البحث لن تكون إلا سلبية، فكل صفة إيجابية وجدتها في المراجع الإنجليزية لم أجد سوى نقيضها في شعر الإحياء الذي لم تكن الصورة الشعرية فيه، في الأغلب الأعم، تعبر عن الوجدان الفردي، ولا تتمتع بصفات الصدق الشعري· وما كان يمكن تطبيق معايير المعادل الموضوعي، أو المفارقة، أو النزعة الدرامية عليها من منظور الحداثة· واكتشفت أن طريقة البحث غير مجدية في النهاية، فقد ظللت طوال شهور أبحث عن أصداء الصورة الشعرية المثالية بمنظور الرومانسيين، أو بمنطق الحداثيين· وكان من الطبيعي أن لا أجدها، وأجد نقيضا لها· وكان ذلك بالطبع يعني أنني أمضي في طريق مسدود منهجيا من ناحيتين: أولاهما أنني أهبط على الشعر من أعلى، وأفرض عليه مناهج لا يقبلها بطبيعته، وثانيتهما: أنني أتجاهل طبيعة هذا الشعر، وأنظر إليه بمنظار غيره، ولن تكون النتيجة سوى سلب خالص، أو إدانة خالصة· وما أسهل الأمر على من يريد أن يكتب أطروحة فحسب، ويتباهى أمام أساتذته بقراءة مراجع أجنبية تبهرهم من حيث الظاهر، لكن الإفادة منها لن تؤدي إلى كشف أو إضافة أو حتى صدق مع النفس· ولذلك توقفت عن البحث وراجعت نفسي طويلا، وظللت أعاود السؤال عن الكيفية التي أدخل بها إلى شعر شوقي وأقرانه، وأكشف منه عن كل ما لم يكتشفه غيري من قبل، فأحقق إضافة كمية وكيفية، وقررت بيني وبين نفسي أن أطرح كل ما قرأت باللغة الإنجليزية، وأن أعيد قراءة شوقي وحده بوصفه عينة دالة· وكانت النتيجة مفاجأة، تتمثل في أن هذا الشعرأخذ يفتح مغالقه لي، ويتيح لي التعرف على بعض أسراره · وما فعلته مع شعر شوقي وفعلته مع أشعار البارودي وحافظ وغيرهما من شعراء الإحياء، وكانت النتيجة جيدة ومثمرة في مداها الإيجابي·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©