الأربعاء 17 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

أنسي الحاج.. مكتوباً بالموت

أنسي الحاج.. مكتوباً بالموت
18 فبراير 2014 23:55
أبوظبي (الاتحاد) - برحيله تغمض الشمس عينها لكي تذرف دمعة حرّى على «حكيم الحداثة.. ربما تربط «الرسولة» شعرها الطويل بعربة الموت لكي تبقى قريبة من صاحبها.. ربما يحزن «الكلام الجوهري» وهو يعدّ خساراته الفادحة. رحل الشاعر الممتلئ بروحه أنسي الحاج أمس في بيروت، عن 77 عاماً، جراء إصابته بمرض السرطان. صائغ الكلام، الذي ظل على مدى عمره الكتابي، ينظف الألفاظ من كل ما هو طارئ عليها. الباحث عن زبدة القول، لكي يأتي نقياً وصافياً كالقلب تماماً.. لم يخطر على باله ولا مرة أن يدوزن روحه على إيقاع التنظيرات، رغم تمرّسه في النظرية.. ظل سهلاً وصعباً، قادراً على أن يترجم أعتى القضايا الوجودية والأسئلة الفلسفية في كلمات تقطر عذوبة. رجل التعاليم نسي أن يعطينا تعويذة ضد الفقد... قاطف شذرات الحكمة وزهرتها العليا لم يقل لنا كيف يمكن للقلب أن لا ينفطر لخبر رحيله.. لم يترك لنا وصفة سحرية تخرجنا من مأزق الكلام الذي لا يضاهيه. غاص أنسي الحاج في مياه مغايرة، جديدة تماماً، لكي يستخرج من اللغة بهاءها الخالص.. بالإيجاز والاقتصاد في القصيدة إلى آخرها... بكشط كل ما يعلوها من صدأ الحكي أو جلده الميت.. فكان أن وضع قلمه على جملتها العصبية الحية، ومنها نسج كتابة فارقة، متشظية، سطرها يوازي صفحات كثيرات.. و ومضتها تغني عن بريق كثير خلبيّ. في عمقه الفلسفي واستراحته على كتفي الوجود، ثم النظر منهما إلى الأشياء، لا تكمن قوة أنسي الحاج الشعرية، إنما تصدر عن تلك الروح المكتفية، حدّ الاستغناء، عن كل قشري، وسطحي في الحياة. لم يعش أنسي الحاج، في تقديري على هامش الشعر، ولم يشرب من بِرَك الفكر وسواقيه الضحلة، إنما ذهب إلى عمقها العذب... استضاء به، وبكل طاقاته الروحية لكي يحظى بألق الشعر. لم تسلمه العبارة قيادها إلا لمعرفتها الحقة، ويقينها، أنه رجلها المخلص. إذّاك فتحت له مباهجها المعرفية، وقاراتها الفلسفية الشاسعة، وحقول ندمها وخشخاشها التي تخبئها للخلَّص من مريديها. أوغل أنسي في المعرفة المبرأة عن كل غاية سوى غايتها، فخرج من حقولها بحصاد لا يشبه حصاد الآخرين. ما أصعب إيجاز سيرة كسيرة أنسي الحاج التي تمتلئ سنابلها فيحار المرء من أيها يبدأ... تاريخ الميلاد يتضاءل كثيراً في حالات كهذه. ربما يحضر تاريخ الموت كتعبير حقيقي عن فيض الروح، لكن التقاليد تجبرنا على رصد أهم ملامح حياته التي هي في جملتها «مهمة». ولد أنسي الحاج في بيروت في 27 يوليو 1937. بدأ بنشر مقالاته وأبحاثه وقصصه في منتصف الخمسينيات، بدأ العمل في الصحافة في العام 1956 في جريدة «الحياة»، ثم في «النهار» مسؤولاً عن القسم الثقافي، وتولى مسؤوليات تحريرية حتى أصبح رئيس تحريرها منذ العام 1992 إلى أيلول 2003. في العام 1994 أصدر «الملحق» الأسبوعي لـ«النهار»، الذي ظل يصدر عشر سنين حاملاً مقاله الأسبوعي «كلمات كلمات كلمات»، والذي شكل علامة فارقة في الصحافة الثقافية العربية. شارك في تأسيس مجلة «شعر» وفي إصدارها، وكان أحد أركانها منذ 1957 حتى توقفها في عهدها الأول، ثم في عهدها الثاني، ولم تكن »شعر« سوى مشروع فكري في ثوب مجلة، أثارت لغطاً وجدلاً، ولعبت دوراً مفصلياً في حركة الحداثة في العالم العربي. في عام 1960 صدرت مجموعته الأولى «لن» مع مقدمة كتبها بنفسه في موضوع قصيدة النثر خاصة والشعر عامة، وكما حدث مع المجلة أشعلت المجموعة حرباً شعرية، وأحدثت فرقاً واضحاً في حركة الشعر العربي الحديث. توالى صدور مجموعاته: «الرأس المقطوع»، «ماضي الأيام الآتية»، «ماذا صنعت بالذهب ماذا فعلت بالوردة»، «الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع»، «الوليمة». صدرت له بالفرنسية لدى «دار أكت سود» الباريسيه أنطولوجيا «الأبد الطيار» التي أشرف عليها، وقدّم لها عبد القادر الجنابي، وأنطولوجيا «الحبّ والذئب الحب وغيري» بالألمانية التي ترجمها خالد المعالي وهربرت بيكر. ثم صدرت له «خواتم 1»« و«خواتم 2». وفي عام 2007 صدرت أعماله الكاملة في ثلاثة مجلدات عن «هيئة قصور الثقافة» في القاهرة. لم يكن أنسي الحاج يسبح في مياه الشعر فقط، بل مارس الإبحار في مياه المسرح، وساهم في إطلاق الحركة المسرحية الطليعية في لبنان من طريق الترجمة والاقتباس، وتحضرنا هنا ترجمته لمسرحية «كوميديا الأغلاط» لشكسبير و«الملك يموت» لاوجين يونسكو، «العادلون» لكامو، «القاعدة والاستثناء» لبرشت، «احتفال لزنجي مقتول» لأرابال، «رومولوس الكبير» لدرونمات، و«الآنسة جوليا» لسترندبرغ. ترجمت له قصائد عديدة إلى الفرنسية والإنكليزية، ووجدت أشعاره طريقها الى المسرح والغناء والأعمال الموسيقية والتشكيلية.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©