الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

فضاءات في المقبرة

فضاءات في المقبرة
3 ابريل 2008 01:23
''الرياح تزداد قوةً، يا أصدقاء· إنها بداية حلول الظلام· أليس من الأفضل أن نعود أدراجنا قبل أن تسوء الأمور؟''· كانت الرياح تتراقص بين الأوراق الصفراء القديمة لأشجار البتولا، وسيل من القطرات الكثيفة يتساقط علينا منها· أحد أصدقائنا انزلق على التربة الطينية وتمسك بصليبٍ رمادي كبير لينقذ نفسه من السقوط· ''ييجر جريازنوروكوف، عضو مجلس فخري وفارس··'' قرأ· ''كنت أعرف ذلك الرجل المحترم· كان مولعا بزوجته، وكان يضع وشاحاً ناعماً، ولم يحب القراءة ابداً··· وكان شرهاً··· الحياة كانت رائعة بالنسة له، ما كان للمرء أن يعتقد بوجود أي سببٍ لموته، أليس كذلك؟ ولكن للأسف! المصير المحتوم قد وافاه··· الرجل المسكين سقط ضحية عادة التنصت لديه، ففي أحد المرات عندما كان يستمع من خلال ثقب المفتاح تلقى ضربةً مدويةً على رأسه من الباب سببت له هزةٍ في الدماغ وتوفي· وهنا، تحت هذا الحجر، يرقد رجلُ مقت الشعر والحكمة منذ نشأته··· ويا للسخرية، حجر قبره بأكمله زين بالأشعار··· هناك أحدُ ما قادم!''· رجل في معطفٍ بالٍ، مخلوق ذو سحنةٍ مزرقة ـ قرمزية، مر بنا· كان يحمل قنينة تحت ذراعه، وطرداً من السجق كان بارزاً من جيبه· ''أين هو قبر موشكين، الممثل؟'' سألنا بصوت متهدج· فوجهناه ناحية قبر موشكين الممثل الذي توفي قبل عامين· ''هل أنت كاتب الحكومة؟'' سألناه· ''لا، أنا ممثل· من الصعب التمييز بين الممثلين وكتبة الحكومة هذه الأيام· ولا شك انك لاحظت ذلك··· إنه أمرٌ طبيعي، ولكنه ليس غاية في الاغراء لكاتب الحكومة''· كان من الصعب أن نجد قبر ذلك الممثل· فقد كان غارقاً بين الاعشاب، وفقد كل مظاهر القبر العادي· ووضع عليه صليبُ من النوع الرخيص وقد بدأ بالتعفن، وكان مغطى بالطحالب الخضراء المسودة بسبب الصقيع، بدت وكأنها مريضة في جو من الاكتئاب· ''···المنسي موشكين···'' قرأنا· الزمن قد محى كلمة ''غير''، وصحح زيف البشر· ''أقيم اكتتابُ بين الممثلين والصحفيين لبناء نصب تذكاري له، لكنهم ابتلعوا الأموال، الزملاء الأعزاء···'' تنهد الممثل، وهو منحنياً الى الأسفل ملامساً الارض الرطبة بركبتيه وقبعته· ''ماذا تعني بابتلعوها؟''· ''هذا غاية في البساطة· انهم جمعوا الأموال، ونشروا عنه فقرة في صحيفة الأخبار، وانفقوها على الشراب··· انا لا أقول أني ألومهم··· آمل أنها فعلت الأشياء الجيدة والطيبة لهم! بصحةٍ جيدةٍ لهم، ولذكرى أبدية له''· ''الشرب يعني صحةً سيئة، والذكرى الأبدية تعني الحزن· الرب يعطينا ذاكرة لبعض الوقت، ولكن ليست أبدية''· ''انت على حق· موشكين كان رجلاً معروفاً، كما تعلم؛ كان هناك اثنا عشر إكليلاً على نعشه، وهو منسيُ الآن· اولئك الذين كان عزيزاً عليهم قد نسوه، ولكن أولئك الذين أساء اليهم يتذكرونه· أنا، على سبيل المثال، لن أنساه أبداً أبداً، لأنني لم أحصل على شيء سوى الضرر منه· أنا لا أكن أي حبً للمتوفي''· ''بماذا أضرك؟''· ''ضرراً بالغاً'' تنهد الممثل، معبراً عن الاستياء المريرالذي ملأ وجهه· ''بالنسبة لي كان وغدأً ونذلا - أسأل الرب له الجنة والرحمة! من خلال مشاهدته والاستماع اليه أصبحت ممثلاً· أغراني بفنه بمغادرة منزل والدي، وأغواني بأن اصبح ممثلاً، ووعدني بكل الأشياء الجميلة·· وجلب الدموع والحزن لي··· التمثيل كان تجربة مريرة! لقد فقدت الشباب، والرزانة، والمظهر المقدس··· أنا الآن لا أملك نصف فلس لأبارك به نفسي، حذائي بالٍ، وبنطالي مهترئ ومرقع، ووجهي يبدو كما لو أنه قد نهشته الكلاب··· رأسي مليءٌ بالتخريف والهراء··· إنه سلبني إيماني، عبقريتي الشريرة! قد يكون شيئا آخر لو كان لي موهبة، ولكنني دُمرت هباءً··· إنها باردة، أيها الاصدقاء الشرفاء··· ألا تريدون أن تتناولوا شيئاً؟ هناك ما يكفي للجميع··· دعونا نشرب لروحه! رغم أني لا أحبه، ورغم إنه ميت، كان الوحيد في هذا العالم لي، الوحيد· إنها المرة الاخيرة التي سأقوم بزيارته··· الاطباء يقولون إنني سأموت قريبا بسبب الشراب، جئت هنا لأقول وداعاً· يجب على المرء أن يغفر لأعدائه''· تركنا الممثل ليتكلم مع الميت موشكين ومضينا· وقد بدأت السماءُ تنزل مطراً بارداً مُنعشاً· في طريق عودتنا على الجادة الرئيسية المغطاة بالحصى التقينا بموكب جنازة· أربعة حمالين يرتدون ملابس بيضاء منقطة بالألوان وأحذيةً عالية يكسوها الطين والأوراق الملتصقة يحملون نعشاً بني اللون· وكان الظلام يخيم على المكان وهم يتحركون بسرعة ويرتعشون من الإعياء· ''لقد تجولنا هنا لبضع ساعات فقط، وهذا هو الثالث الذي يُأتى به اليوم··· ألا يجدر بنا العودة الى البيت، يا أصدقاء؟''· انطوان تشيخوف: يعتبر من أشهر الأدباء الروس· ولد في تاجانرونج عام ،1860 درس ومارس الطب وكان دائماً يقول: ''الطب زوجتي الشرعية، والأدب عشيقتي''· له الكثير من الأعمال الأدبية التي جعلت منه أفضل كاتب قصة قصيرة بحسب رأي النقاد· توفي بمرض السل في المانيا سنة ·1904 ترجمة: عبدالله الشبلي
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©