الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

طبرق ·· مدينة عمر المختار والشاي المُحلى

طبرق ·· مدينة عمر المختار والشاي المُحلى
16 نوفمبر 2007 01:16
فجأة وجدت نفسي في طبرق، المدينة الواقعة في أقصى الشمال الشرقي للجماهيرية الليبية، حيث تعتبر بوابة ليبيا الشرقية التي تبعد 140 كم عن الحدود المصرية، في تلك اللحظة من عمري كان العطر ما زال يبلل ملابس المراهقة التي كنت أرتديها حين ركبتُ أول طائرة في حياتي، والتي انطلقت من دمشق صوب بنغازي في رحلة استغرقت قرابة ثلاث ساعات، وما إن وصلت حتى لفحتني شمس حادّة في بلاد تتنوع فيها التضاريس البيئية، والألوان البشرية، وقد حباها الله مناظر طبيعية خلابة تجمع البحر والسهل والجبل والصحراء، حتى غدت واحدة من أجمل البلدان العربية· من يصل إلى طبرق، لا يغادرها أبداً إلا عند العودة إلى بلاده أياً كانت مدة الإقامة قصيرة أم طويلة، ذلك أنها تبعد عن بنغازي 550 كم، وفيها جميع مقومات المدينة وإن كانت قصية على الأطراف، ولها سمات خاصة يضطر الزائر لها أو الموظف فيها أن يتكيَّف معها، إما صعوداً أو هبوطاً في مسار حياته· وادي درنة انتقلت بنا الحافلة من بنغازي إلى مدينة البيضاء، وهي مدينة جبلية سياحية عالية، مما يجعل الجو فيها بارداً نوعاً ما خصوصاً في فصل الشتاء، وتشتهر بكثرة المزارع والأشجار، ثم مدينة درنة التي تبعد عن البيضاء 200 كم وتقع على الطريق الساحلي، وهي مدينة جميلة مشهورة بجمال نسائها وتفننهن في إعداد الطعام، ومشهورة كذلك بكثرة الشلالات، ويشطر المدينة مجرى وادي درنة، وهو أحد الأودية الكبيرة المعروفة في ليبيا، حيث تسقى أشجار الفواكه اليانعة والأزهار الشذية الفواحة بالمياه العذبة المتدفقة إليها عبر السواقي، ومعروف عن أهلها تغنجهم في الحديث· بعد درنة توجهنا إلى طبرق التي زارها في العام 1941 رومل ثعلب الصحراء، قبل أن تدور معركة العلمين، وتم فيها زرع حقول الألغام، حيث كانت أرض طبرق مسرحاً لعمليات الحلفاء والمحور في الحرب العالمية الثانية، لذا يوجد فيها أربع مقابر للجنود الذين سقطوا في تلك المعركة (فرنسية، ألمانية، ومقبرتان إنجليزيتان)· ومن اللافت للنظر أن السائح أو حتى المقيم في طبرق يرى في تلك المقابر أهم معلم سياحي في المدينة، ولا يتردد أن يزوره كل يوم· المقبرة الألمانية على سبيل المثال قلعة مشيدة، أما المقابر الإنجليزية والفرنسية فهي منبسطة، وعلى كل قبر منها مكتوب اسم صاحبه وعبارة عاطفية من مثل: (أيتها الشمس كوني حنونة على هذا الجندي الذي سقط في الصحراء)، والجنود فيها هنود وأستراليون وإنجليز، وكانت الفرق الموسيقية تأتي من بلادها كي تعزف اللحن الجنائزي لهؤلاء الجنود، أما السفارات فتقيم في ذكرى الحرب احتفالات بالقرب منهم· في طبرق قصر متواضع للملك كان يقيم فيه صيفاً نظراً لجوها النقي المعتدل، وبعد 1969 وسقوط الملكية في ليبيا تم تحويل القصر إلى مدرسة ثانوية، وفي تلك الفترة من حياتي أذكر أنني تعرفت على رجل في مقام والدي كان يعمل مستشاراً في القصر، وإذا به يفتتح بقالة يبيع فيها الفواكه والخضروات، هذا الرجل بالذات ما زال عالقاً في مخيلتي، حيث كنت أشاهده يقرأ الكتب بنهم، ويحدثني في السياسة بعد أن اطمأن لي كواحد من أبنائه· المكرونة ثمانية أشهر فقط أمضيتها في طبرق، وجدت فيها أن الليبيين لهم طقوس معينة لم أشاهدها في أي بلد مشرقي منها حلقات صوفية يتحلَّق فيها الرجال ويبدؤون بالدوران وهم يهزون رؤوسهم ويصرخون، مما يؤدي بهم إلى حدوث حالات من الإغماء والسقوط تباعاً، وما إن يسقط الشخص حتى يخرجوه من الحلقة ويرشوا على وجهه الماء لإيقاظه· الأُكلة الشعبية المفضلة لدى الليبيين هي المكرونة أو (السبكتي) التي تعلموها من الإيطاليين، وهم يتفننون في طريقة صنعها، وقد تعلمتها منهم وكنت مغرماً بتلك الأكلة، وما إن غادرت ليبيا حتى نسيت تلك الأكلة تماماً، وحين تطبخ في البيت هذه الأيام أبقى جائعاً، أما الشاي فإنه يترك على النار قرابة ساعة أو ساعتين ويكون أشبه بالقطر أو الشهد ويسكب في أقداح صغيرة إلى النصف تكون كافية لان يأخذ المرء حاجته من ذلك الشراب الرائع· وحين ترقص المرأة الليبية فإنها لا تتقافز كالغزال على الطريقة اللبنانية، أو تؤدي وصلة من الرقص الشرقي على الطريقة المصرية، بل تجود بالإغراء الأنثوي من خلال حركات بسيطة ساحرة تؤديها وهي واقفة تخطف الأبصار· يكفي مدينة طبرق فخراً أنها أنجبت شيخ المجاهدين عمر المختار، وحين تعاملت مع أهلها فإنني لمست في العديد من تصرفاتهم ومواقفهم وسلوكياتهم اليومية ما يشبه سلوكيات ومواقف ذلك البطل الكبير، وكأنهم حفظوا رسالته عن ظهر قلب·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©