الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

«الفرن».. عندما تنضج الخيبات مثل رغيف

«الفرن».. عندما تنضج الخيبات مثل رغيف
30 ابريل 2009 00:46
الفرن له اسم شعبي آخر هو «بيت النار»، وإذا كانت النار هنا رديف الحياة أو صانعتها يمكن لنا أن نسمي الفرن بالصيغة التي قدمه بها المخرج علاء النعيمي ورسمها الكاتب عبد الله مسعود: «بيت الحياة»، وينطوي بيت الحياة الدرامي أو الرمزي على ما ينطوي عليه بيت الحياة الحقيقية؛ شخوص وأقدار وأدوار وحيوات، بعضها يكبر وينمو درامياً تماماً كما في الواقع وبعضها يظل ثابتاً ورتيباً وأسيراً لأوهامه وأفكاره. المحبطون في الفرن تعيش في هذا «الفرن المسرحي» أربع شخصيات، لكل منها سماتها الخاصة من جهة وتقاطعاتها مع الشخصيات الأخرى من جهة ثانية، وهي: عبد الله مسعود في دور «الخباز»، وريم الفيصل في دور «المرأة»، وعبد الله شامس في دور «خالد»، وعبد الله بن حيدر في دور «يوسف». أما الخباز، فرجل محبط يائس، متردد وعاجز عن اتخاذ أي قرار في حياته بما في ذلك قرار الارتباط بالمرأة التي يحبها، فهو لا يجرؤ على الاعتراف بحبها بل ويطرده كلما ألح عليه ثم يطردها هي في النهاية من حياته ويبدأ في الندم، ورغم أن صديقه يحاول مساعدته وحثه على اتخاذ موقف إلا أنه يبقى عاجزاً مستسلماً لحالة «اللاحلم» التي سكنته منذ توفي والده وترك له الفرن ليحترق في أتون فقره. ومثله في الإحباط والسلبية يوسف، الذي يلجأ الى الخمر لأنه عاجز عن فهم الحياة، هو رجل متخبط بلا أحلام أيضاً، مستسلم للواقع ولا يكاد يصحو من السكر، وهو يمثل الشخصية العبثية التي لا ترى جدوى من أي شيء. في المقابل تبدو ريم «المرأة» أو حبيبة الخباز شخصية قوية، مكافحة، لا تستسلم لأوهام الخباز بل تحاول إخراجه من حالة العجز بالتأكيد الدائم على حبها له رغم فقره، وهي تواجهه وتنتقد موقفه، وتصرح له بحبها وتؤكد له أن المرأة عندما تحب رجلاً لا يمكن أن تختار سواه لأن الحب في حياة الرجل مجرد حادث بينما بالنسبة للمرأة هو تاريخها. وثمة نموذج آخر، فقير أيضاً، لكنه أصبح ثرياً ويصر على أن يخرج الخباز من سلبيته عبر مواعظه الموجعة و «تمثيلية» صغيرة خلاصتها أنه يتقدم لخطبة ريم لترفضه ويخبز الخباز بأنها قبلت الزواج من «خباز آخر» يقيم في مدينة أخرى، وإذ يفعل ينسف الأساس التي بنى عليه الخباز موقفه. وعندما يكتشف الخباز الحقيقة لا يأخذ موقفاً إيجابياً بل يضرب صديقه في إشارة مهمة إلى أننا نركن الى رؤانا وقناعاتنا وندافع عنها بشراسة إذا ما حاول أحد أن يخطِّئها أو يهزها. فكرة شائكة يحمل هذا العمل في أحشائه أكثر من رسالة أو فكرة، ويطرح مجموعة من الأسئلة الشائكة عن الفقر والحلم والاغتراب النفسي. وهو يصور نمطاً من الحياة توقف أصحابها عن الحلم، إنها حياة الفقراء الذين سدت في وجوههم آفاق الأمل، فوقعوا في هوة اليأس، وباتوا مستلبين بالكامل. في هذا الفرن لا توجد أكياس طحين ولا أرغفة فقط، بل يوجد أناس معذبون، يحترقون بنيران أشواقهم ورغباتهم المستحيلة، ينتظرون نهاية «مشرقة» بعد أن كانت بدايتهم «محرقة» لكنهم يكتشفون أن أقدارهم لا تتغير وأحلامهم لا تتحقق، فيستسلمون للعجز والسلبية ويخسرون أحلامهم في جملة خساراتهم الكثيرة. حكاية مناسبة جداً وفيها الكثير من المأسوية والمآزق الوجودية والشخصية التي تصلح مناخاتها للعمل المسرحي. بيد أنها لم تجد إشباعاً كافياً في المعالجة، فالنص جاء مغرقاً في السردية، رغم شاعريته وما ينطوي عليه من رومانسية، فتحول إلى عبء على المخرج علاء النعيمي الذي حاول جاهداً أن يستعين بالحلول الإخراجية التي توفرها له الإضاءة والسينوغرافيا وقد وفق إلى حد بعيد، ونجح في إضفاء الكثير من الدرامية على بعض المشاهد وإيصال التمزقات والشروخات النفسية التي تعيشها الشخصيات، لكن الإطناب في الجمل وطولها ساهم أحياناً في تخفيف حدة هذا التوهج، وأدخل المشاهدين في شيء من الرتابة، ولو أن النص لجأ إلى الجمل الحوارية القصيرة، واعتمد على الحركة والإيماءة والأشكال الأدائية الأخرى، بل والصمت بين الفينة والفينة، لربما جاء أكثر نضجاً في إيصال الحمولات النفسية التي تنطوي عليها الشخصيات وتأزماتها وتشظياتها، لا سيما وأن المسرحية من مشهد واحد. رغم ذلك، ثمة مشاهد توهجت مسرحياً وإنسانياً، مثل مشهد الحبيبة وهي تعجن العجين وتغني لفيروز ثم مشهد الخباز بعد طردها من فرنه ومن حياته يجلس وحيداً يعجن العجين ويغني نفس الأغنية، ومشهد الحبيبة وهي تغرق في الضوء الأرجواني المتوهج الآتي من الفرن وهي تتحدث عن احتراقها وعذابها وشوقها له وألمها من سلبيته وعجزه، ومشهد الخباز وهو يتخيلها ويخاطبها ويبوح لها بحبه ثم يلتفت فجأة لوجود صديقيه فينتقل في حركة سريعة ويدخل في حالة أخرى مختلفة تماماً سواء على صعيد الحركة أو نبرة الصوت وكأنه لم يكن قبل لحظة العاشق المعذب، والمشهد الأخير الذي برزت فيه قدرات الممثلين والمخرج لتختزل العمل في مشهد وتطلق عدداً من الأسئلة ستبقى بعد أن ينتهي العرض. خارج الجغرافيا من اللفتات المهمة في هذا العمل أنه جاء باللغة العربية الفصحى ما جعله يمارس انزياحاً جغرافياً منحه بعداً عربياً بل وإنسانياً. فلم يعد مكان النص الجغرافي متعيناً، قد يكون في الإمارات أو في مصر أو الأردن أو المغرب أو أي مكان آخر... المكان هو المخبز، والمخبز معادل موضوعي لفئة اجتماعية مسحوقة تعاني الأمرين في سبيل الحياة الكريمة، والبطل هو الخباز الذي يعمل على تأمين الرغيف للآخرين وتطحنه هو نفسه رغبة البحث عن الرغيف، ولهذا، تتكرر جملته: «كلهم يركضون وراءك»، وفي ماراثون الركض الحياتي يرتكبون الكثير من الأفعال التي يراها شائنة. شخصية يمكن أن يجد المرء لها شبيهاً في أي بلد، خصوصاً أن المشهد الأخير حمل أغنية شعبية سورية كان الماغوط استخدمها في مسرحيته «غربة»، حيث غنت الحبيبة: «هالأسمر اللون هالأسمراني تعبان يا قلب خيّو ما عاد رماني» ثم رددها الخباز أيضاً، في إشارة إلى أن الغربة الحقيقية هي غربة الفقر، فالفقير يشعر بالغربة حتى لو كان في وطنه. وربما يعزز هذا المعنى أن الشخصيتين: الرجل والمرأة ظلتا بلا أسماء محددة، هما فقط رجل وامرأة، أي أنهما مجرد أنموذج للاغتراب الإنساني
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©