الثلاثاء 16 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

عندما يغرق الشعر في السرد والحكائية

30 ابريل 2009 00:47
يصل بعض الشعراء بالصورة الشعرية إلى حدود الغياب، وكأن ثمة سحابة قاتمة تغطي كل مداليلها. وهنا يبقى المتلقي في حيرة تماماً، خاضعاً لتساؤل ملح وهو أين أجد شعرية النص؟ في نظامه اللفظي أم في تراكيبه العصية، أم في صوره الغائبة تماماً. كل ذلك يؤرق المتلقي، إذ لا يعني اليومي، العادي، المألوف أن يكون هناك اغراق في الغياب، على مستوى الصورة والدلالة أو على مستوى بصرية الموقف، لذا اقول: كيف يمكن لي أن أتصور شيئاً لا يتجسد أمامي، حتى لو لم يحصل هذا يمكن أن أتصور تلاعباً في بنية اللغة الشعرية أي بمعنى آخر، لنفترض جدلاً أنني لم أستطع تصور موقف ما أراد الشاعر أن يقدمه لنا في قصيدته، حينها يمكن لي أن أجد لعباً لغوياً فريداً. وإذا لم يتوفر هذا أيضاً، فإنني أسقط في وهم تصوري عن الشعر. عن مشروع قلم التابع لهيئة أبوظبي للثقافة والتراث صدر ديوان جديد للشاعر محمد المزروعي بعد تجربة طويلة ومهمة امتزج فيها الإبداعي والثقافي لهذا الشاعر الذي مارس الشعر والتشكيل والقص معاً فأنتج «في معنى مراقبة النار» و»اللاموس» و»ريحة دم» و»لكنك أنت يا آدم» و»أرق النموذج» وكلها دواوين شعر و»من سيعتني بالذباب» وهي مجموعة قصصية قصيرة وسبق له أن أقام العديد من المعارض التشكيلية الشخصية والجماعية المشتركة. ديوان «بلا سبب لأننا فقراء» لمحمد المزروعي لا يمكن أن يوصف بشكل عام إلا تحت يافطة «الديوان الاشكالي» ابتداءً من العنوان حتى آخر قصيدة لديه وهي «..........» أي الفراغ أو بلا عنوان. عنوان الديوان لا يميل إلى الحقيقة، أنه مجاز وموقف من قضية ما، في زمن ما، في مكان ما، وحتى لو كان حقيقة فإن الشاعر حاول أن يطمس السبب تماما مدعياً «بلا سبب»، أما القضية التي جعلت هذا الـ»بلا سبب» يهيمن على الديوان كله عبر عنوانه فهي ملغاة تماماً. ويشابهها الفراغ في نهاية الديوان عند قصيدته الأخيرة «........» هذا أولاً أما ثانياً فهو أن عنوان الديوان «بلا سبب لأننا فقراء» لم يؤخذ من أي قصيدة من قصائد الديوان التي وصلت إلى 38 عنواناً بالإضافة إلى عنوان قصيدة الفراغ «..........» التي يقول فيها: غير حالم بشيء والكتابة الوحيدة التي أنجزتها حصول على نوم هانئ أن أجلس كما أنا الآن جالس لا أقوم من موضعي إلى الأبد ستهطل السماء على رأسينا كما هي العادة مخلفة بللاً أشبه بميل إلى ما لم نكنه من قبل. وربما تشكل هذه القصيدة المغزى من عنوان الديوان الذي ينفي عنه السببية لموقف تعرض له الشاعر أو جيله أو طبقته « فقراء» ، وهذا الموقف الذي لا يحمل سببيته كونه فراغاً هو ذاته الذي يشعر به المزروعي عندما يكتب شعراً لا يستمتع فيه بقدر استمتاعه بنوم هانئ. «غير حالم بشيء».. إلغاء تام لحلم الشاعر، و»الكتابة الوحيد التي أنجزتها» هي «النوم الهانئ». لذا فهو الغاء تام لكل أنواع الكتابات شعرية كانت أم قصصية أم فكرية كون الشاعر يمارس هذه الأخيرة في كثير من الأحايين. وكل ذلك في تصوري سبق للشاعر محمد المزروعي أن لخصه في قصيدته «مع الدنيا إلى أن ننام» وفي سطر شعري واحد أراد منه أن يكون موقفاً من العالم حيث يقول فيه: أحزنني أن يكون العالم مرتاحاً دائماً عندما يكون بلا ذاكرة ومن المؤكد حتماً أنه يلغي الذاكرة الشعرية أيضاً، يلغي كل ما يحيل إلى الكتابة كونها تثبيت للذاكرة. وربما يعرف المزروعي أنه في ديوانه هذا أكثر ذاتية حيث جعل من ذاته مرآة لقراءة العالم، تناول علاقة أنا الشاعر بالوجود، الأنثى، الأشياء، المحسوسات، الغياب، الموت، الحب، وكأنه في النهاية قد خرج من تجربته هذه بالفراغ حيث لم يستطع أن يسمي الأشياء التي تتعالق مع ذاته، كلها مشاريع فاشلة اصطدمت بها الذات فلم تحقق شيئاً منها.. (1) أنا لا أصلح للحب لقد غدر بي بعيداً عن خطأ دراسي وعائلة للمعنى تنتظرني بكوب ماء الطريق من البيت إلى المقبرة مدفن للقبل ولقد أخطأت حين سلمت كل شيء بوضوح (2 ) أنا الشيخ الهرم الذي لم يعد يستطيع ارتداء ملابسه بنفسه استيقظ على صوت من أُحب أكتب كل يوم في الصباح وبعد الجرعة الخاطفة للثمالة: حبيبتي وفي فمها سيجارة لن تكون بالضرورة إلا أمي. يمكن أن يجزأ هذا النص الشعري إلى قسمين يحتوي القسم الأول منها على الحاضر الذي يروي بضمير المتكلم «أنا» عن ماضٍ يحمل أخطاء «لقد غدر بي» أما القسم الثاني فهو المستقبل الذي يحمل ماضياً جديداً ويبتدىء من «أنا الشيخ الهرم». اننا إذاً بموازاة نصين هما «أنا لا أصلح للحب» والآخر «أنا الشيخ الهرم». كلا النصين يمتلكان سرداً ويتناولان حالة لذات السارد بين زمنين تتداخل بينهما ذكريات ماض نقي في الأولى وماض مركب في الثانية وكأن الشاعر يتحرك هنا بين أنا الحاضر الذاهب عبر الطريق إلى المقبرة ليصل إلي الشيخوخة التي تستدعي كل ذكريات حبه «لأمه».. انها المقبرة التي تفصل بين الشباب «أنا لا أصلح» والشيخوخة «أنا الشيخ الهرم». يمكن لنا أن نجد تقابلات أو تماثلات أو تضادات على مستوى المعنى والشكل في قصيدة محمد المزروعي هذه ثمة عالم يمكن أن نتصوره او أن نتلمسه، عالم من الحواس والرؤى المركبة الداخلة في علاقات موضوعاتية مع بعضها، غير أننا لا يمكن في كثير من قصائد الشاعر ان نتصور الاشياء التي يريد منا تصورها، فلا يمكنني أن أتخيل الصورة الشعرية لدى الشاعر كونها مغرقة في التوصيف البعيد والتحولات السريعة من حالة إلى أخرى. إذ أرى ان الشاعر محمد المزروعي وقبل أن ينتهي من تأطير حالة ما كي تستوفي خصائصها الأسلوبية والتوصيفية وتتجسد في صورة مكتملة، يتحول عنها إلى صورة أخرى فتضيع الأولى ولا تستوفي الثانية. هناك لمحات من رؤى شعرية طافحة بالذات الشاعرة الأنيقة، ولكن هذا لا يبرر أن تكون القصيدة وحدة متماسكة لها بنيتها الموضوعية واللفظية العاكسة لكل ما يدور فيها بصفاء واضح. عندما يعمد المزروعي إلى «السرد» في نصه الشعري يبدو أكثر وضوحاً، غير أنه حينما يتولى التوصيف فقط تبدو انتقالاته سريعة فتضيع ملامح النص في هذه الانتقالات. تبدو قصيدة «تنام القاتلة كل ليلة في سريرها».. من أكثر القصائد تنوعاً في أساليب الشاعر فما بين الحكائية التي يبتدئ بها النص الشعري: هي كانت تحمل اسمي في الخفاء كنا اتفقنا على ألا يتكرر ما اعتمني من قبل لكن لإنقضاء الوقت على الاتفاقات أعماله الأخرى كنت أظن كما سلف وتكرر انها المرة الأخيرة لآلام ما بعد انتهاء العلاقة لذلك أوضحت لها السبب المباشر حيث تتجلى روح الحكائية والسرد وكأن الشاعر يروي ما سبق أن حصل بينه وبين حبيبته من اتفاق ثنائي في الماضي عبر تكرار «كانت، كنا، كنت». ثم يأتي التكرار الآخر: اقتضى الاتفاق بأننا سنناقش أي شيء معاً/ اقتضى بأن لكل حقه في خلع الآخر/ اقتضى ألا نكون جديين مفاجئين إذ نلاحظ «اقتضى.. 3 مرات» بما يقابل «كان.. 3 مرات» وكأن المزروعي يعادل سرده بالتبريرات كي يصل بالحكاية إلى ذروتها. ويستمر الشاعر سارداً: لم أنتبه إلى كل المآسي التي حكتها لي مراهقتها المتأخرة أمها القاسية قسوة أبٍ قاس ثلاثة اخوان وابن عم وابنا خال مراقبون دوليون ثلاث علاقات فاشلة وكأن الشاعر أراد أن يقدم نصاً قصصياً «لاحظ العدد ثلاثة يعلن عنه الشاعر» وصل إلى حدود قصوى في النثر عندما استخدم الشاعر الحوار بعيداً عن التوصيف بل كان اغراقاً في التقرير. - هل تحبني؟ - نعم - لماذا تحبني؟ - لأنك حلوة أو لأنني أحبك - لماذا تحبني؟ - لأنني أحبك السرد والحوار والتقرير التوصيفي للذات وللآخر في ماضيه البعيد والقريب عناصر تدخل في النص الشعري فتبدو أقرب إلى النثر بمعناه السردي. ربما أتساءل مع محمد المزروعي.. أين هي شعرية هذا النص؟.. وربما يجيبني في حكائيته التي هي أقرب إلى النثر تماماً.. هنا أتساءل أيضاً ألا يمكن أن تتحول هذه الحكائية إلى نص شعري من خلال زوايا أكثر بريقاً
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©