السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

بالمقلوب

بالمقلوب
30 ابريل 2009 00:49
يعود الرسام كاندنسكي ذات ليلة إلى بيته ليقف مندهشا أمام لوحة مائية على الجدار فائقة الجمال. ولكن ماهي؟ سيكتشف بعد التأمل إنها إحدى لوحاته ولكن عُلقت على الجدار بالمقلوب! الجمال الاستثنائي للعمل الذي تحدث عنه كاندنسكي وهو يستعيد تلك الواقعة جعله يفكر في مصدره، إنه دون شك غياب موضوعها فبدت غير عادية تكتسب جمالياتها من عناصر ومزايا أخرى بعد أن زال مفعول موضوعها، وهكذا بدأ كاندنسكي مشروعه التجريدي الذي شكّل تدشينا لمرحلة جديدة في الرسم تحتكم إلى الروحي وتستقصي تجلياته في الخطوط والألوان مجردة من الخدمة التابعة للموضوع الذي أوقع الرسم في التكرارية والاجترار والتماثل وهيمنة المعنى والمضمون الخارجي والنزعة التعبيرية الشديدة والفوتغرافية. كنت أتساءل ـ وأنا أقرأ تلك الواقعة التي كررها مؤرخو الفن كثيرا ـ عن إمكان نشوب التحولات الكبرى في الأساليب وتغيير الاتجاهات والرؤى بحوادث صغيرة كالتي ذكرها كاندنسكي سببا لاختراعه أسلوب التجريد؟ تأتي الإجابة هذه المرة من تاريخ العلوم: تفاحة نيوتن التي سقطت عن الشجرة وقادته إلى قانون الجاذبية، وحمّام أرخميدس الذي شهد صرخته المدوّية: وجدتها، ومراقبة الإنسان لطيران الطائر الذي قاده للتفكير لاختراع الطائرة. تلك وسواها أمثولات على إمكان الاجتراح من اليومي والبسيط والعابر.. وكي لا يكون الأمر رهين الصدفة المحض سنكمل ما استوقف كاندنسكي في ليلة التجريد تلك، فقد واصل تساؤلاته عن الاستثنائي الذي أضافه غياب الموضوع بسبب وضع اللوحة المقلوب، ورأى أن المهم الآن هو إيجاد البديل لغياب الموضوع أو مضمون العمل المكتفي جماليا بشكله. (ما الذي يجب أن يحل محل الموضوع؟) يتساءل باحثا عن محتوى للفن بعد تلك المرحلة الموضوعية فيجدها في ما يسميه (جوهر الفن وروحه) فتصبح الحياة الروحية هي الإطار الذي يستوعب فاعلية الرسم، وتستنفر اللوحة من أجله طاقتها الفنية وعناصرها البنائية. لن يظل للصدفة وجودها العائم بل تكتسب نظامها الموضوعي بالقياس إلى ما يجاورها فتنتظم في سياق لا يعود لها فيه وجود الطارئ أو مكانة الغريب. يرد بعض الدارسين اكتشاف السياب للشكل الحر إلى قراءته قصيدة بالإنجليزية عن طير يحلق حرا ليضرب الهواء بجناحيه مرة ثم اثنتين أو أربعا ليعود مصفقا بجناحية ثلاثا دون انتظام تتابعي ثابت فيُدهش السياب بجمالية الطيران الحر وتكون تصفيقة الجناح هي التفعيلة عنده فيعيد ترتيبها بحرية في كل بيت بعد أن صار النص فضاء والقصيدة طائرا والاجنحة أبياتا والتصفيقة تفعيلة تأتي بحريّة عددية وتخلق إيقاعها من هذا الفضاء الحر المتاح. لقد كان الوضع المقلوب لمائية كاندنسكي هو الوضع الصحيح الذي عاد إليه الرسم ليفجّر جماليات اللون وقدرته على الاكتفاء بذاته للتعبير عن الروح. وذلك هو لغز مقلوبات كثيرة في حياتنا القائمة
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©