الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

كيف نظر مثقفونا إلى الفكر الإصلاحي العربي الحديث؟

كيف نظر مثقفونا إلى الفكر الإصلاحي العربي الحديث؟
23 نوفمبر 2007 23:11
ابتداء من نهاية أربعينات القرن العشرين، والعقود التي تلت ذلك، كان الفكر الإصلاحي العربي والإسلامي، وكذا التجارب والمشروعات الإصلاحية التي عبرت عن خطاب هذا الفكر، قد حظيت باهتمام لا بأس به من جانب عدد من المؤرخين والمفكرين والباحثين العرب والمسلمين المعاصرين وغيرهم من علماء المشرقيات الأجانب ''المستشرقين''، ومن الباحثين المتخصصين في شؤون الشرق الأوسط من السياسيين والباحثين الاستراتيجيين في غير مكان بالعالم في الشرق والغرب· كان هؤلاء المهتمون قد أمعنوا ببصيرتهم في الخطابات الإصلاحية، وذلك عندما أخضعوا نصوصها إلى الدرس والتحليل والمقارنة والمفاضلة والمعايرة النقدية، فضلاً عن إنزالها في سياقات تأريخية ومجتمعية وسياسية ضمن قراءات معرفية وسوسيولوجية متعددة· وصار مجال تفكيرهم يشتغل في حقل معرفي واسع الفضاء هو حقل ''ما بعد النص الإصلاحي''· ولعل المسألة في التعريف واضحة للوهلة الأولى، فالإصلاح إنما يبدأ بـ''فكرة''، وهي التي غالباً ما تصاغ في ''نص ما''، سواء كان شفاهياً أم مدوناً، تسعى مقاصده لأن تتحول إلى واقع عملي وميداني وتطبيقي ملموس في المجتمع، وهو ما نسميه اليوم بـ''المشروعات الإصلاحية''، وعندئذ ستولد ''فكرة النظر'' في النص الإصلاحي، في خطابه النظري، وفي حراكه الميداني أو العملي أو التطبيقي أو التداولي، ليولد لنا فضاء نقدي جديد هو فضاء ما بعد النص الإصلاحي· من المحاولات المبكرة تلك التي نهض بها أحمد أمين 1866-1954 عندما كان يكتب في الصحف العربية بمصر عن تجارب الإصلاحيين المسلمين والعرب المُحْدَثين بوعي حقلي ومعارفي رغبة منه في رسم ملامح الفكر الإصلاحي الإسلامي الحديث، وهي المساهمات التي ضمها، فيما بعد، كتابه ''زعماء الإصلاح في العصر الحديث''، الذي ظهر حوالي عام 1948 ككتاب مستقل من حيث الرؤية والمنهج، ومن حيث الوعي المعارفي النسقي الذي ثوى فيه· أسس هذا الكتاب لإمكانية الحديث والبحث في التجارب الإصلاحية الإسلامية التي ظهرت خلال العصر العربي الحديث، والملاحظ أنه في خلال العقود الخمسة الأخيرة من القرن العشرين، لم يستطع أي باحث عربي جاء بعده تجاهل ما كتبه أحمد أمين في هذا الشأن؛ فمساهمة الرجل كشفت عن خطاب عدد من النهضويين العرب والمسلمين في مشهد واحد عنوانه ''الإصلاح''، وبقدر ما كشف الحديث في هذا المشهد عن أدوار هؤلاء المصلحين العملية، آثر أحمد أمين تبيان المشهدية الفكرية في تجربتهم من خلال إبراز أهم المفاهيم المصطلحية المركزية في خطاب كل واحد منهم، ومن ثم إجراء مقارنة تشخص الاختلاف والاتفاق فيما بين تجارب هؤلاء بعضهم البعض، ما يعني أنه وضع مفاهيمهم المركزية الخاصة بهم في سياق المشكلات التي تصدوا لمعالجتها في حياتهم العلمية والثقافية، والمآزق الفكرية والخطابية التي تصدوا لها ضمن شروط المرحلة الثقافية والحضارية، وشروط حراكها السياسي الضاغط حينها، فضلاً عن الضغوط الخارجية التي كانت تمارس سلطتها على المجتمع العربي والإسلامي· تناول أمين تجارب عشرة من المصلحين العرب والمسلمين في العصر العربي الحديث، هم: محمد بن عبد الوهاب 1703-1791 ومدحت باشا 1822-1883 وجمال الدين الأفغاني، ولد عام 1837 وأحمد خان 1817-1898 وأمير علي، خير الدين التونسي وعلي مبارك 1824-1893 وعبد الله النديم 1845-1896 وعبد الرحمن الكواكبي 1848-1902 ومحمد عبده 1849-·1905 وكل ما فعله أمين أنه دخل إلى عالم ما بعد النص الإصلاحي الحديث من أبوابه المعارفية بشكل فاعل ومنتج حتى أن كل الذين جاؤوا بعده من الباحثين الذين اشتغلوا على هذا النوع من النصوص لم يستطيعوا تجاوز منجزه في هذا المجال، بل جعلوا من كتابه آنف الذكر بوابة رئيسية للدخول إلى عوالم النص الإصلاحي العربي والإسلامي الحديث، وإلى تجاربه ومشروعاته ومجالات تداول أفكاره من الناحية النظرية والعملية والميدانية· إلا أن أمين، وبقدر تعلق الأمر بالإصلاحيين العراقيين، ما وجدناه قد أشار إلى أي منهم، ولا حتى أشار إلى ما وضعوه من مشروعات فكرية إصلاحية، خصوصاً وأن جمال الدين الأفغاني ترك بصمات كانت واضحة لدى عدد منهم في النصف الأول من القرن العشرين، كما أن تيار الحركة الوهابية هو الآخر قد ترك أثراً في عدد من الإصلاحيين العراقيين من المثقفين الدينيين· مع ذلك، مثلت مساهمة أحمد أمين أحد المؤشرات التواصلية المهمة في مسارات الكتابة العربية المعاصرة عن الخطاب الإصلاحي، وعن النص الإصلاحي· ولما كانت مساهمة أحمد أمين ذات منحى ريادي في بعض وجوهها، فإنها أثارت الشهية المعارفية لدى جيل تالٍ من الباحثين والمؤرخين والمفكرين في الوطن العربي لأن يمعنوا النظر في دراسة المنجز الإصلاحي العربي والإسلامي الحديث وفق منظورات قرائية مختلفة أخذت تتواتر في الظهور خلال النصف الثاني من القرن العشرين، وظلت متواصلة فيما بعده على هيأة بحوث ودراسات مستقلة، أو على هيأة فصول في كتب تناولت الفكر العربي والإسلامي الحديث، أو على هيأة كتب مستقلة قائمة برأسها· من الدراسات المهمة التي عكفت على دراسة إشكاليات الإصلاح العربي والإسلامي الحديث بعد تجربة أحمد أمين، هي محاولة هشام شرابي 1927-2005 في كتابه ''المثقفون العرب والغرب/ عصر النهضة 1875-،''1914 الذي ظل شرابي يكتب فصوله باللغة الإنجليزية أولاً خلال مرحلة ستينات القرن الماضي حتى أتمه ونشره عام 1970 باللغة ذاتها· وبعد عام ترجمه شرابي نفسه إلى العربية، وصار الكتاب، منذ ذلك التاريخ، أحد المراجع التي حازت اهتمام المشتغلين في الفكر العربي الحديث، ولذلك حاز شرابي به ريادية خوض هكذا اشتغال في وقت لم تكن هناك سوى أقلية من المثقفين العرب، من الذين ظهروا في تلك الفترة، قد أقبلوا على إعمال بصائرهم في دروب هذا المعترك لاستظهار إشكاليات الإصلاح في الفكر العربي والإسلامي الحديث· ناقش الكتاب، من بين ما ناقش، الأسس النظرية للنزعة الإصلاحية في الإسلام، ومن ثم أيديولوجية الإصلاح الإسلامي، وموضوعات أخرى ترتبط من بعيد أو قريب بإشكالية الإصلاح· لكن قراءة أولية له تكشف بأن شرابي آثر البحث في مفاصل اليقظة العربية من خلال خطابها الفكري وتحولات المثقف في متونها، إلا أنه ركز، بنحو ريادي لافت، على البعد الإصلاحي في حراك الخطاب العربي الحديث خلال الفترة الزمنية التي حددها العنوان الفرعي للكتاب· ومع أن شرابي أثنى على كتاب ألبرت حوراني (الفكر العربي في عصر النهضة 1798-·1939 صدر الكتاب لأول مرة باللغة الإنجليزية عام ،1962 وصدرت ترجمته العربية الأولى عام 1977 عندما عده مرجعاً لا غنى عنه لأية دراسة تتناول تاريخ الفكر العربي الحديث· بيد أن قارئ كتاب حوراني لم يجد فيه هذا الانهمام الذي أبداه شرابي في موضوعة ''الإصلاح'' رغم أن حوراني قدم مسحاً لافتاً في رياديته لمسارات الفكر العربي الحديث· يبدو لي، أن الحراك الأيديولوجي والسياسي والديني والثقافي المتشابك والمعقد الذي هيمن على سنوات الستينات في القرن الماضي، قد دفع شرابي إلى تناول موضوعة ''الإصلاح'' ليس من خلال السرد التاريخي الذي جربه حوراني من ذي قبل وهو يكتب ''الفكر العربي في عصر النهضة''، إنما من خلال الطرح الإشكالي لهذه الموضوعة، لا سيما وأن شرابي كان قد قرأ بإمعان تجربة أحمد أمين في كتابه ''زعماء الإصلاح في العصر الحديث''، التي كانت متقدمة عليه ولم يكن من السهل تجاوز منجزها المعرفي والتاريخي الذي ظهرت فيه خلال مرحلة الأربعينات· كذلك لم يكن من اليسير تجاوز ما كُتب في الخمسينيات عن المصلحين العرب والمسلمين خصوصاً ما كتبه عثمان أمين 1908-1978 عام 1955 عن محمد عبده في كتابه ''رائد الفكر المصري الإمام محمد عبده''، إلى جانب كتابات أخرى في هذا السياق ظهرت في المرحلة نفسها وخلال المراحل اللاحقة في سنوات الستينات· لكن شرابي، الذي جعل من تجربتي أحمد أمين وسميه عثمان أمين أرضية معرفية في أي حديث عن موضوعة الإصلاح، آثر الارتقاء إلى ما هو إشكالي في هذه الموضوعة؛ فكانت معالجته تساؤلية معمقة هدفت إلى تقديم نمط نقدي جديد من القراءة المتعلقة بالنظر في الفكر العربي عامة والإصلاحي منه على نحو خاص· لم تمض سوى أربع سنوات على صدور كتاب هشام شرابي حتى صدر في بيروت عام 1975 كتاب علي المحافظة ''الاتجاهات الفكرية عند العرب في عصر النهضة 1798-·''1914 ومقارنة الفترة التي اشتغل عليها ''شرابي'' بالفترة التي اهتم بها ''المحافظة''، نرى أن الأخير رجع إلى الوراء زمنياً بنحو 77 عاماً، بينما كان كلاهما قد توقف عند عام ،1914 وهو العام الذي اندلعت فيه الحرب العالمية الأولى وطالت نيرانها المنطقة العربية· إذا كان شرابي تناول الفكر الإصلاحي العربي من حيث إشكالياته، فإن علي المحافظة آثر البقاء في حدود عملية التأريخ للأفكار الإصلاحية، وهو بذلك اقترب من أحمد أمين كثيراً في تغطية منجزات المفكرين الإصلاحيين العرب والمسلمين في العصر العربي الحديث، مع فارق منهجي مهم هو أن الدكتور المحافظة من أوائل الباحثين والمؤرخين العرب المعاصرين الذي تنبهوا إلى أهمية تناول الاتجاهات الإصلاحية التي ظهرت في العراق الحديث، بينما كان هذا الأمر قد فات أحمد أمين وهشام شرابي معاً؛ وذلك عندما كتب المحافظة عن تجربة ''المدرسة الآلوسية الإصلاحية''، والتي تمثلت في الشيخين: شهاب الدين الآلوسي 1802-1853 ومحمود شكري الآلوسي 1856-1924 في العراق نهاية القرن التاسع عشر حتى الربع الأول القرن العشرين في معرض استقراء المؤلف للمؤثرات الوهابية على المفكرين العراقيين· لكننا، ومع ريادية هذه المحاولة، وقدر تعلق الأمر بقيمة المنجز الإصلاحي العراقي، نرى أنها بقيت حبيسة مؤثرات الخطاب الإصلاحي الوهابي في المثقفين الدينيين العراقيين·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©