الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

المندوس كاتم الأسـرار وحارس الذكريات

المندوس كاتم الأسـرار وحارس الذكريات
25 نوفمبر 2007 12:27
حين كانت الجهات مشرّعة على الفلاة، مفتوحة على المدى، كان وحده يغلق بابه على أشيائهم الثمينة، كمحبٍ أمين يداري صاحبه ويصونه· كان المندوس دائماً قلب البيت الذي يخفي في حناياه يوميات أهل البيت ووقائع حياتهم وذكرياتهم، يفتحون بابه ليلقوا إليه بأشيائهم الغالية إن بقيمتها أو معناها، ليحفظها لهم· اليوم بات المندوس من التراث تحفظه جميع المتاحف تعرض مناديس من أزمنة مختلفة، متفاوتة في أشكالها وأحجامها، تبعاً لأهميتها البيئية ومشاركتها للأجداد في حياتهم، تروي شقوق كل صندوق حكاية صبر الأجداد وشظف العيش وقسوة الحياة التي عاشوها، بحيث بات المندوس شاهداً على الأيام السالفة، ليس هذا فقط، بل أصبح المندوس وسيلة جمالية تزين بعض الساحات والدوارات في بلادنا، كما في مدينة العين· فماذا عن أيامه هو حين كان سائداً ولا غنى عنه! يبدو جلياً أن ذلك الصندوق الخشبي ارتبط بدايةً بالعرس وتقاليده، فإن أول دخول له إلى البيت يكون بدخول العروس، وقد أطلق الأجداد حول ذلك مقولتهم الشهيرة المندوس قبل العروس · وبذا فإن العروس التي تضع داخل المندوس جهازها المؤلف من لباس وبعض مصاغٍ وأدوات زينة، إضافة إلى هدايا عريسها، وتنقله معها إلى بيت الزوجية، إنما هي توسد طيه أحلامها وأمانيها وتطلعاتها إلى حياة آمنة وأسرة فيها صغار يكبرون أمام عينيها، ورجل تشاركه رحلة كفاحه في الحياة القاسية· مستودع الأمانات من جهة أخرى كان المندوس أشبه بالخزانة لكل من المرأة والرجل، هي تستخدمه في حفظ الملابس والحلي وأدوات الزينة والعطور والأغراض الأخرى، وهو يستخدمه في حفظ الملابس والأسلحة ومعداتها، فضلاً عن حفظ المال وأمانات الآخرين الذين لا يمتلكون في بيوتهم صندوق المندوس، فمن يمتلك ذلك الصندوق، كان كصاحب بنك تستودع لديه الأمانات· لذا بات وجوده ضرورياً في الحياة اليومية، بخاصة مع تعدد استخداماته ومن ثم أنواعه وأحجامه التي سنقف عليها في سياق تحقيقنا· هذا المندوس الذي يبدأ -غالباً- رحلته في البيت، بالأفراح والأعراس، مع بداية الحياة الزوجية لعروسين، يشاركهما أيامهما بما فيها من آلام وآمال، خيبات ومسرات، يتربع في صدر غرفة النوم أو المجلس، كأنه الشاهد على أيامهما وأمانيهما، والحافظ لوقائع حياتهما وأسرارهما الصغيرة، بحيث يبدو صانعه الذي تفنن في صناعته، وأبرز جمالياته من خلال النقوش البديعة والرسوم الجميلة عليه، قد أحكم مغلاقه تأكيداً على مكانة المندوس وأهميته لمالكيه، وعلى قيمة ما بداخله لهم سواء مادياً أومعنوياً، لذا كان مكانه غالباً في صدارة الغرف· أبو النجوم تتميز جميع المناديس بجماليات فنية تنمّ عن إبداع صانعها ومهارته الحرفية، وتختلف فيما بينها تبعاً للحجم والشكل والنوع والاستخدام، فالمندوس يمتاز بتعدد زخارفه المعدنية ووضوح نقوشه، وبأدراجه المصطفة في أسفله، وبحجمه الكبير مما يسمح بحفظ شتى الأغراض بداخله· ولعل جولة في الكتب التي تناولت تراث الإمارات، تكشف مدى اتفاق الصنّاع والمستهلكين -قديماً- على أن أبو النجوم هو المندوس الأجمل، فالذائقة الجمعية ترى في تشكيلات النجوم الزخرفية التي تغطيه إبداعاً جمالياً لا يبزه أي نوع آخر من الصناديق الخشبية· يليه في الحجم صندوق سرتي الذي يحوي داخله عدة صناديق صغيرة تسمى سحارات يستخدم كل منها في حفظ شيء يختلف عن الآخر، كأن توضع في صندوق عطور وأدوات زينة الزوجة، وفي آخر مسابح وخناجر الزوج· أما الغتم فهو بسيط في تصميمه، تندر النقوش عليه، لأنه يستخدم في حفظ أدوات الطعام كالملاعق والسكاكين والأكواب· بينما صندوق المشج سمي كذلك، لأن الحبال تحيط بالجزء السفلي منه، لسهولة حمله، حيث يحمله المسافرون في ترحالهم· قبل و بعد كان المندوس يصنع من عدة أنواع من الأخشاب، تجلب من الهند و أفريقيا وزنجبار، أهمها الساج و السيسم وتأتي الزخارف على أشكال هندسية أو نجوم من النحاس، وتطلى باللون البني أو الأسود، وكانت صناعته تستغرق أحياناً شهراً كاملاً ويكلف روبيات لا تتجاوز عدد أصابع اليدين· مع الطفرة الحضارية التي شهدتها الإمارات، ومع أنماط الحداثة التي انفتحت عليها حياة الإنسان الإماراتي، توارى المندوس مع غياب ضرورته ووظيفته، ففتيات الجيل الجديد توقفن عن إدراجه ضمن جهاز العرس وطقوس الزواج، واقتصر استخدامه كقطعة ديكور جميل داخل بعض البيوت، تشمخ فوقه دِلال القهوة، يذكّر الأحفاد بتاريخ الأجداد، واستبدلن الحجم الكبير منه بأحجام صغيرة لاستخدامها في أغراض أخرى· بقي أن نذكر أن تفصيل المندوس يستغرق 3 أيام، فضلاً عن توفر مناديس جاهزة، تتراوح أسعارها من 500 إلى 5000 درهم، وأنواع أخرى من النحاس تتجاوز عشرات الآلاف، بحسب الحجم والزخارف والمواد المطلوب إضافتها كالمعادن أو النحاس أو القفل المطلي· في عصرنا الحالي، ظهر المندوس على هيئة جديدة تناسب معطيات العصر، فارتدى حلة زاهية من الدانتيل وأحياناً المخمل أو الساتان، واحتضن باقات الورود الاصطناعية، تجاورها زجاجات عطور دهن العود والمخلط وعلب البخور، أو الساعات الأنيقة، فتناقلته الفتيات هدايا فيما بينهن· وراقت الفكرة لمحال الحلوى والشوكولاته، فباتت المناديس بديلاً لأكياس وعلب الشوكولاته، تُصف القطع بداخل المناديس التي تتعدد ألوانها وأحجامها وأشكالها، ويتفنن الصنّاع في تزيينها وإضافة رونق عصري لملمحها التراثي· إنما··· أيا تكن التغييرات التي طرأت عليه، سيظل المندوس تراثاً محلياً مميزاً له خصوصية حميمية تتصل بحكايات وذكريات تعمّق مكانته في ذاكرتنا وضميرنا وقلوبنا·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©