الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

روائيو الهزيمة هربوا مع أبطالهم من الواقع

روائيو الهزيمة هربوا مع أبطالهم من الواقع
28 نوفمبر 2007 21:15
لن نتحدث عن الوضع الاجتماعي ـ السياسي الذي خلفته ''كارثة حرب 1967 في المنطقة، بل سنركز على التغيير الفكري الذي خلفه هذا التاريخ بين المثقفين في تلك الفترة، فكما يصف نجيب محفوظ المثقف بقوله ''الفنان يشبه بعض الحيوانات التي تتمتع بحاسة خاصة تجعله يقوم بتحذير الآخرين في الوقت المناسب عندما يقترب الخطر، وإذا لم يكن الفنان يتمتع بهذه الحاسة التي تعطي فنه ذلك البعد الاستشرافي، فإن هذا يعني أن كل نظامه مفكك''· لذلك يصبح هؤلاء الكتاب والباحثون والفنانون أول من يتنبه إلى الفوضى التي ستطبع حياة المنطقة بعد الهزيمة، فالهزيمة غير المتوقعة تدفع بالكثيرين منهم إلى الصمت والكآبة وهم يتأملون سقوط المؤسسات، والعلاقات الإنسانية والمعتقدات التي تنهار بسرعة تصيبهم بالدوار، وبعد تلك اللحظات الحاسمة الأولى تبدأ ''مرحلة من أهم مراحل الأدب العربي المعاصر''· حضور اللحظة التاريخية بعد الهزيمة بدأ محفوظ يكتب ما اسماه بالحواريات، أي تلك القصص التي تكاد تشبه النصوص المسرحية المعدة للقراءة، مستخدماً منهج السوريالية، وشخصيات رمزية ومركزة· وكانت رواية ''حب تحت المطر'' (1973) أول عودة له إلى الواقعية، ولكن عودة بشكل مختلف تماما عن رواياته القاهرية وحتى عن روايات الستينات، قدم من خلالها نجيب محفوظ صورة اجتماعية مسطحة تماما· هذه الرواية التي لم ينتبه أحد إلى أنها واحدة من أفضل أعمال الكاتب تقدم سلسلة من الرموز الاجتماعية التي تكشف عن التغييرات التي بدأت في عام 67 والتي لا تزال في قمة حيويتها، تكشف عن مظاهر مثل التوجه الإسلامي والهجرة، التي تقلق أوروبا منذ التسعينات، وهي مظاهر رصدها هذا الكاتب في بداياتها قبل أكثر من عشرين عاما، وبرغم إنني قدمت تحليلا كاملا لهذه الرواية من قبل، إلا إنني سأحاول هنا أن أركز على: هجرة المثقفين المصريين إلى الغرب، والشعور بالانتماء الذي خلقته فكرة الهروب، فحسب الرواية لم تتمكن أي شخصية من الخروج من مصر· حضور الأجيال ويجب الإشارة إلى أن الرواية مكونة من شخصيات تنتمي إلى أجيال لعبت دوراً هاماً في تاريخ مصر، مثل جيل 1919 الذي يطلق عليه محفوظ جيل ''الوطنية المصرية الجادة'' وجيل 1952 أو ''أبناء الثورة'' الذين نشأوا في عهد الاشتراكية والمجد العربي وعانوا كارثة الهزيمة في 1967 في أهم مرحلة من شبابهم، وعاشوا النضج في أسوأ لحظات الإحباط والتناقض''، فالجيل الأول لا يرى أسبابا كافية تبرر مغادرة الأبناء لمصر بأي ثمن: ''عارض الوالدان الفكرة، ولم يدركا لها حكمة ما دام للشقيقين مستقبل مرموق في مصر، فقال الدكتور لوالديه: - البلد بات مقرفا· وقالت منى: ـ وهو لا يطاق· وأراد الأب أن يستثير عاطفتهما الوطنية ولكن الدكتور علي قال بجرأة عدها الأب قاسية: ـ لم يعد الوطن أرضا وحدودا جغرافية ولكنه وطن الفكر والروح!''· وفي لحظة أخرى: ـ ''الوطن هو الأرض التي يسعد فيها الإنسان ويكرم''· يصور الكاتب في روايته مجتمعاً خانقاً، يفتقد للتركيب، يحاول كباره إنقاذه فيما الشباب فقد الأمل فيه، هذان الجيلان (مهنيون وفنانون ومصورون ومخرجو سينما وموظفون الخ··) لهم وجهات نظر مختلفة حول الحلول الممكنة، على الرغم من اتفاقهم حول خطورة الوضع· ماذا كانت الهزيمة بالنسبة لمثقفي رواية ''حب تحت المطر''؟ يؤكد نجيب محفوظ طوال الرواية غياب الأهداف، سواء على المستوى الفردي أو الجماعي، فالمثقفون العرب منذ القدم كان لهم دور في تشكيل الوطنية من خلال النضال في سبيل الاستقلال، ومنحهم هذا رؤية واضحة للمشاركة في الحياة السياسية، والآن بعد الهزيمة تم تحريم ذلك عليهم، فالسياسة الداخلية ساءت ولم يعد هناك سوى الأحزاب الوحيدة، والبيروقراطية وغياب المشاركة، وفي مجال السياسة الخارجية تحولت القوى الكبرى والدول الدائرة في فلكها ضد العرب، هذا التحلل حوّل الشخصيات إلى ممثلين سلبيين ناقمين على الوضع الذي يعيشونه، وضاقت المسافات ولم يعد هناك سوى البحث عن ملجأ أو مهرب يساعدهم على الحياة بدون معنى واضح، فالرواية مليئة بالجمل بهذا المعنى: ـ ''لا همة ولا موقع يصلح للعمل'' ـ ''أيام الكروب تتتابع كالمطر'' ـ ''الأم ضحكت عاليا؟'' ـ ''صدقيني إنني لم أضحك ضحكة واحدة من قلبي منذ 5 يونيه'' ـ ''هنا أنتهيت لذات عابرة بدافع الذعر والحزن'' ـ ''ستظل القبور مكتظة وكذلك المستشفيات ولن يمنعنا ذلك من أن نأكل ونشرب ونتزوج!'' ـ ''وتنهدت بصوت مسموع تمتمت: كنا على وشك الهجرة!'' وجهان للهروب هذه الشخصيات ترصد الواقع الاجتماعي بكل مرارته لكنها لا تملك القدرة على تغيير هذا الواقع، ولم يعد أمامها سوى الهروب، الهروب بالنسبة للكبار هو في داخل الوطن، لأنهم لا يحتملون فكرة مغادرة مصر، وكذلك بالنسبة للشباب غير المؤهل الذين لا يملكون حتى الحلم بالهجرة، وهكذا يتحول الحب والزواج والسينما والبيت والعمل إلى أماكن للهروب: ـ ''سنضطر إلى الوقوف غداً من شدة الزحام''· ـ ''أليس من الأفضل أن نهاجر بدلا من أن نتزوج؟'' ـ ''الزواج هجرة داخلية'' ـ ''الفن مهرب كالهجرة التي أصبحت موضة هذه الأيام'' ـ ''في شقته يجد راحة شاملة وإحساساً بالسيطرة على كل شيء··· من أعماقه يشعر بأنها توثق علاقته بالدنيا وتدفع عنه غوائل الفناء'' القطيعة مع الواقع لكن الهروب الأكثر طموحاً كقطيعة نهائية مع الواقع هو الهجرة، الهجرة كحلم غير ممكن لكنه يظل دائما في الأفق المتخيل للمثقفين الأكثر شبابا، أحيانا لمواجهة مشاكل صغيرة مثل الهروب من الفشل في قصة حب، وعندها تعود فكرة الهجرة إلى الواجهة، تبدو هذه المشاكل الشخصية الصغيرة كما لو كانت القطرة التي فاضت بكأس التحمل الإنساني· هناك نوعان من الهجرة: الأولى موجهة لإنقاذ النطاق الريفي دون مناقشة لاستمراريته ولا حتى مصادره، أما الثانية ''لم تعد مهمة تكلف بها الجماعة فردا من أفرادها فيتحولون إلى العمل بمفردهم، فيصبح هما فرديا بعيدا عن الهدف الجماعي المبدئي، فالهجرة ليست لمساعدة الجماعة بل للتحرر من هذه الجماعة''· النوع الثاني من الهجرة هو النوع الذي يجذب شخصيات الرواية، لكن ما هي سمات الشاب الذي يتحرق إلى الهجرة ؟ يمكن تحديده كالآتي: شخص ينتمي إلى الطبقة المتوسطة، أو المتوسطة العليا أو حتى البرجوازية، يمتلك إمكانيات الحل الاقتصادي في وطنه، فهو جامعي مثقف معد مهنيا أو قادرا على الإعداد قبل الهجرة، هو دائما شاب، حيث لا نجد في الرواية سوى شخصية نسائية واحدة تحاول الهجرة: شابة برجوازية، تعيش صراعا بين الحداثة والتقاليد، التي تُهزم فيها التقاليد، ولكنها لم تفكر في الهجرة وحيدة، بل انتظرت أن يتخذ شقيقها قراره بالهجرة· والأسباب الأولى التي تدعو المثقف إلى الهجرة متعددة، لكنها في الحقيقة تتركز في سبب واحد، الهروب من الوطن، من المنطقة التي تحولت إلى فوضى قاتلة وغير مفهومة: ـ ''إننا نحيا بلا هدف!'' ـ ''يجب أن نهاجر''· ـ ''سنهاجر عند أول فرصة''· ـ ''نعم·· ليتني أستطيع الهجرة أيضا· ''فسألته باسمة: وماذا يمنعك؟ ـ تخصصي لا يؤهلني لها· ثم وهو يضحك: لا مفر من البقاء في مصحة الأمراض العقلية'' ـ ''واعتبرت منى نفسها سائحة عابرة فشعرت براحة نفسية، وراحت تحلم بحياة جديدة نقية توفر للفرد سبل التقدم والازدهار والأمن''· البلاد المفضلة لهجرة هذه الشخصيات هي الولايات المتحدة وكندا، والاتحاد السوفياتي سابقا، وتأتي أوروبا في مكانة متأخرة وليست هناك إشارة واضحة إليها، أما طريقة الحصول على عمل في الخارج فيقدمها الكاتب على هذا النحو: ـ ''وكيف يتم لك ذلك يا أخي؟ ـ إني على وشك الانتهاء من بحثي عن الطفيليات وسوف أرسله إلى زميل مهاجر بالولايات المتحدة ليعرضه على الجامعات وبعض المراكز الطبية ومن ثم انتظر أن أدعى للعمل في إحداها، وهو ما حصل معه بالضبط···''· الجيل السابق، عندما كان يقرر اختيار منفاه كان يختاره في أحد البلاد المجاورة، وكان يقاوم هذه الفكرة حتى اللحظة الأخيرة، ولم يكن يستسلم إلا أمام ما يقلق راحته الشخصية، وذلك عندما يجد مزيدا من القمع يقرر المنفى: ـ ''هناك أيضا التحريات التي تنشط في كل مكان الآن مثل الذئاب الجائعة·· لا·· لا أمان· عليه أن يهرب، في أول فرصة، ثمة وعد سابق بتصوير فيلم لبناني فليطلب السفر فورا وقبيل أن يذكر اسمه في التحقيق، سيستقر في لبنان إلى الأبد، لا حياة له في هذا البلد· الوداع يا مصر··'' لكن المؤلف لن يسمح لأي من شخصياته بتحقيق ما ترمي إليه، فكل المشروعات تتوقف وبعد ذلك تُجهض، مما يعطي معنى واضحا حول هدفه الذي يتمثل في التنبيه إلى خطر الهروب من الواقع سواء بالنسبة للوطن أو الفرد، ولذلك لا تستطيع أي شخصية التخلص من مشاكلها، على الأقل عبر الهجرة· كان كُتاب تلك الفترة كانوا يحذرون البلاد من مخاطر الهجرة الجماعية للعقول، ومحفوظ لا يهادن، فكل الخطط تنتهي بالفشل، برغم أن الأمل في الهروب يتحول إلى حلم مستحيل·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©